الحرب والإستثمار!

الحرب والإستثمار! - مروان الغفوري

يذكر المؤرخ الأمريكي الشهير "وول ديورانت" في "قصة الحضارة، المجلد 21" حكاية المقاتل الفارسي "نادر قيلي" في النصف الأوّل من القرن الثامن عشر.. مشيراً، بخفّة، إلى معاركه التي انطلقت من إيران، بقندهار، أذربيجان، الهند، وحتى أوزبكستان.. وقبل أن ينتهى من الإشارات إليه، يعلّق ديورانت على حروب قيلي التاريخية التي اشتعلت لأتفه الأسباب، وبلا أسباب أحياناً (مثلَ أنه تذكر بيعَه كرقيق للأوزبك، فغزا أوزبكستان) مرجعاً هذا الهوس المفرَغ واللانهائي بالحرب إلى حقيقة أن قيلي أدرك في منتصف الطريق أن الحرب أقل تكلفة من السلم، لما في السلم من متطلبات بناء عام، تستوجب طرح مشروع نهضة وإعمار وتنمية، وهي مشاريع لا يمتلكها أمراء الحرب، عادة.. أو على أقل تقدير: لما سيفرضه السلم من واجبات إعاشة لمعسكره الضخم، ورعاية لشؤون البلدان المستعمرة، وبلده الأصلي المتمدد على كل الجهات.
وبصورة عامة، فإن آينشتاين كان محقّاً، وأنا أردد هذا دائماً، حين قال: "لا يمكننا أن نحل مشاكلنا بنفس العقليات التي أوجدت هذه المشاكلـ". فالدخول في مشكلة كبيرة يعكس تورّط المشروع وأصحابه، في صناعة أخطاء جوهريّة. وفي الغالب، فتحوّل جهاز دولة، يفترض أن تكون مهمّته الأساسية توفير الجو العام الملائم للحياة، إلى آلة لصناعة المشاكل وإشعال الحرائق يكشف بجلاء انهيار شروط البقاء لدى هذا الجهاز. يصبح، حينئذٍ، انتظار أن يتحوّل الجنرال قيلي إلى رجل إعمار، ومؤسسة قانون يحمي الحقوق ويكسِب الأمن (وهو الذي قتل مائة ألف هندي أعزل انتقاماً لمصرع بعض جنوده) لوناً من أحلام ما بعد اليقظة. ولكي تبدو مأساة الجنرال "قيلي" في حجمها الحقيقي، فمن الرياضي أن نشير إلى أن أجندته، قبل الوصول إلى عربة القيادة،كانت عسكرية صِرْفة. فلم ترِد الإشارة فيها إلى أي نيّة مدنية، فيما يخص موقفه من العلوم والثقافة والتنوير والقضاء على الفقر والمرض. وإن كان يعِد بعض المناوئين له،من وقت لآخر، بأحلام شبيهة في حال انضموا إلى معسكره لأجل حسم الخيار العسكري سريعاً والعودة إلى فارس باكراً.. كما أن نهايته كانت نتيجة طبيعية لاشتباكاته المتواصلة بأجندته، على نحو قريب تماماً من النهاية الدرامية لأكثر خصومه شراسة.
هي، إذن، ورطة الإنحشار في دائرة الحرب المفرغة. الدائرة الناتئة، بفعل الصيرورة، من فراغ أكبر: انعدام المشروع المدني الحضاري، والإستقواء الفطري بمناهضيه. وهو ما يجعل جهاز دولة، كاليمن - بوصفها مثالاً راهناً ونظيراً لحالة نادر قيلي، يستمرئ إشعال الحروب وحفر القبور كلما بدت أمامه الالتزامات الميدانية ملحة وجمّة. يقودنا إدراك معادلات هذه الدائرة المفرغة إلى استيعاب، وإن بشكل محبَط، معنى أن يتزامن إعلان جهاز الدولة في اليمن عن مؤتمر للاستثمار، مع انفجار حرب جديدة في صعدة. ومهما تكُن التبريرات السياسية لهذه الحرب، وأيّاً تخفت حقائقها الميدانية، فإنه من العبث الحديث عنها بمعزِل عن الإشارة إلى غياب المشروع المدني الإصلاحي الشامل، وتورّط هذا الغياب في فتح جيوب عبثيّة بغية استهلاك الزمن والتحلل عن أي التزام أخلاقي تجاه الوطن. وبالمرّة: لخلق ذرائع فشل، يكون البكاء الرسمي على بوّابتها معقولاً، فيما بعد. وهي المظلة التي عمل تحتها الجنرال قيلي حين أدرك أن تكلفة الحرب أخف وطأة من تكاليف السّلم. يدخل في هذا الإطار مشهد تصويري ناعِم، وفيه يقف أحد تجّار الحرب السعوديين فوق أكمة عالية في صعدة، وبجوارِه قائد عسكري يمني.. يومئ العسكري اليمني بيده إلى البعيد: مازالوا هُنالك بالآلاف، و.. سوى الروم خلفك فُرْسٌ، فعلى أي جانبيك تميلُ! هذا المشهد ينطِق بما آلت إليه الحرب في صعدة.. سوق للتكسّب، وابتزاز للجوار، وبالمرّة: الهروب من الالتزام الحضاري الجاد تجاه المواطن والوطن.
يأتي الحديث الديماغوجي عن مؤتمر للاستثمار ليجلّي زاوية أخرى في مستطيل الكساد العام. فمثلاً، لنأخذ في الاعتبار هذا الكلِيب: في 19 مارس، 2005م افتُتح مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا، صنعاء، بحضور جماعة المستثمرين وأعضاء مجلس الإدارة وأصدقاء لهم، بعد أن فشلت كل الوساطات في إقناع أي من قيادات الدولة العليا بالحضور. وكان التأويل السياسي لهذا الغياب هو الأكثر استهلاكاً. يتطور الكلِيب إلى فصل كامل: في 2 أبريل، 2006، أي بعد عام واسبوعين من افتتاح المستشفى رسميّاً، يحضر الرئيس اليمني بصحبة وفد أنيق مليء بالغرباء، ليفتتح مستشفى جامعة العلوم.. فيما بدا أن الوساطات قد نجحت أخيراً، لكن بإقناع مجلس إدارة المستشفى بالفكرة، هذه المرّة! وتالٍ ليوم الافتتاح يطير الرئيس بصحبة نفس الوفد إلى الصّين، ليتحدث عن رعايته الخاصة للاستثمار، ومبشّراً بعهد جديد من فرص النجاح الاستثماري في اليمن، وكأنه يقول لهم: منذ يومين فقط كنتُ أفتتح مشروعاً استثماريّاً ضخماً، ألم تتابعوا الحدث؟. المستهدف واحد، في كل مشهد شعاراتي يحضره القادة في اليمن، خاصة حين يتعلق الأمر بمشكل التنمية. فنجاح رحلة الخريف للصين بحاجة إلى بروباجندا استباقية عن عناية جهاز الدولة بالمسألة الاستثمارية. كذلك، حضور مؤتمر لندن، وإنجاحه، يتطلب الحديث عن مؤتمر للاستثمار قبله وبعده. وفي خاتمة شبيهة انتهت الرحلتان بأحاديث عن مليارات الدولارات (مليار الصين العظيم وخمسة مليارات لندن). وفي الحالين أيضاً: لا يوجد مشروع حقيقي واضح، بينما تتكفل المصادفات بمفردها بتجلية المساقات الأصلية لكيف يعد نظام الحكم حلوله لإدارة المشكلة.وحين نقول "المشكلة" بينما نضع أصابعنا على اسم اليمن في الخريطة، فمن المستحسن أن نستحضر حقيقة أن اليمن تقع في خانة العالم الثالث للعالم العربي، الثالث عالميّاً!
حربٌ في صعدة ومؤتمر للإستثمار في صنعاء، أحدهما على وشك أن ينسف الآخر، أو هكذا تقول المشاهد. وللإفلات من هذه السقطة، ستكون محاولةً ذكيةً تلك التي طرحتْ فكرة " التغيير الحكومي"، وإن بصورة عاجلة، فلا بد مما ليس منه بد للهروب إلى الأمام ولطمس الأثر السالب الذي ستتركه الحرب في رؤوس المشاركين في المؤتمر. فلا يمكن الحديث عن استثمار في وجود توتّر سياسي عند درجاته القصوى " الحربـ". معقولٌ جدّاً، فمن أعراض إدارة الشأن العام بالأزمة والمصادفة: التغييرات الحكومية المفاجئة، والقرارات المفاجئة، والحروب المفاجئة، وارتجالات أخرى مشابهة. وكل هذه المفاجآت، القريبة من فكرة ألعاب الحواة (ويا ما في الجراب يا حاوي) بما تحمل من طابع الغرائبي وغير المتوقّع، تعودُ بمتتبعها إلى مربع أساسي: واحدية المؤسسة. أيضاً، فإن واحدية المؤسسة، تلك التي يملك خيوطها بطريرك واحد، تفرّخ شكلاً تالفاً من أشكال الدولة: دولة الأوامِر، بدلاً عن الشكل الحديث: دولة القواعد. الأولى،دولة الأوامر، تتشكل من مصرّف واحد للشأن العام، مهما قلّ أو كثُر (عضو في هيئة التدريس، في جامعة صنعاء، أكّد لي أنه اطلع على توجيه بإمضاء رئيس الجمهورية يقضي بتعيين موظف بسيط في الجامعة).. والثانية، دولة القواعد، هي بمفردها القادرة على إنجاح مؤتمر للاستثمار..فالمستثمر لا يريد أكثر من بيئة مؤسسية واضحة ومحسوسة، لإيمانه بعقيدة اقتصادية مفادها أن المؤسسية جرس إنذار يحرس رأس المال من الضياع.. ولا يمكن خديعة جوّابي الآفاق بالصورة الرخيصة المستهلكة في إعلامنا الداخلي. هذا التصنيف الاقتصادي لشكلي الدولة يساعدنا، بالتأكيد، على التغاضي عن مفردات المنابر الإعلامية الرسمية: أمر، وجّه، أعطى، etc.. فدولة الأوامر هي جهاز الرجل الواحد، المفضي بالضرورة إلى مؤسسة الرجل الواحد، ومنها إلى وعي الرجل الواحد بالمشكل.. وعليه يمكن فهم تورّط الرجل الواحد في كل ما من شأنه أن يصرف الناس عن التوقعات الكبيرة Great expectations ومحاولاته المستميتة للفرار بالمشكلة إلى الأمام في انتظار ما لا يأتي، وإنْ "على قلقٍ، لأن الحربَ خلفي"!
يتعاضد مع الطرح أعلاه مشهد يمني حديث لا تبدو عليه أي من مظاهر التسلية. فأثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة، في اليمن.. يتحدث الرئيس الحالي عبر قناة الجزيرة: لم يتحقق لليمن أي إنجاز إلا في عهدي. وهُنا، والتعليق لي، تجوز الإشارة إلى أن تاريخ اليمن يتجاوز 6 آلاف سنة من الحضارة والإبداع، وتوجد في القرآن الكريم سورة اسمها "سورة سبأ". في الوقت نفسه يقف بن شملان، المرشّح المنافس، في مدينة إب، مخاطباً البسطاء والعقلاء في آن: قال شاعركم القديم "وفي البقعة الخضراء من أرض يحصبٍ، ثمانون سدّاً تقذف الماء سائلا".. الأول يتحدث عن نفسه بوصفها مفرِزة للتاريخ والمستقبل بصورة لا تقبل التكرار والنسخ.. بينما منافسه يشير إلى إمكانات الإنسان اليمني، وشواهدها الحيّة.. ويغازل آفاق المستقبل، عارِضاً رمزاً تاريخيّاً دالاًَّ "السدود"، متمنيّاً أن ينجح هذا الإنسان في إقامة مؤسساته، بكل تنويعاتها، و أن ينتظم في سلوك إبداعي حضاري، من جديد.
وبعد: هل وصل السادة الكبار إلى عقيدة " الحرب أقل كلفة من السلم".. ليكن الله رحيماً بالجنرال نادر قيلي، إذن!
 
* شاعر وكاتب يمني مقيم في القاهرة
thoyazanMail