عن طبائع حكم العسكر

ابوبكر السقاف يكتب عن طبائع حكم العسكر

كان انتقال موريتانيا إلى التحول الديمقراطي بوساطة انقلاب عسكري مفاجأة ترقى إلى المفارقة، فكيف تحولت وسيلة صنع الاستبداد إلى إرساء قواعد تحول ديمقراطي حقيقي في بلد فيه عصور اجتماعية جيولوجية من الرق والعشيرة والقبيلة وعلاقات تبعية معولمة. وكان من أخطر القرارات، إن لم يكن أخطرها، تكوين لجنة مستقلة باتفاق بين العسكريين والأحزاب لإدارة الانتخابات.
لم تشهد موريتانيا انتخابات ديموقراطية منذ العام 1960 عندما استقلت عن فرنسا، وتوالت فيها الانقلابات العسكرية والانتخابات المزورة. وفت الجماعة العسكرية التي قامت بالإنقلاب في آب 2005 والتي حكمت برئاسة علي محمد ولد فال بوعدها. وكانت المحطات: الاستفتاء على الدستور، والانتخابات البلدية ثم البرلمانية، وجرت الانتخابات الرئاسية بالأمس 11/3/2007 في جو أُجمع على نزاهته وهدوئه، فقد أظهر الموريتانيون نضجاً سياسياً مدهشاً، ولعلهم دحضوا آراء الذين يقولون إن تغيير ثقافة الجمهور مقدمة لازمة لأية تجربة ديمقراطية، متناسين أن الهند منذ استقلالها، وهي أكبر ديمقراطية في العالم، كان معظم سكانها من الأميين.
لعل الأمر الحاسم في تجربة موريتانيا دور هذه المجموعة التي تستحق أن توصف بأنها نخبة، فهذا وصف مدح، فقد أرادت الخروج من دائرة بل دوامة الانقلابات العسكرية التي تبدِّد الزمان والثروات وتصنع القهر والإفقار والفقر فأحسنوا إذ أسموا أنفسهم حركة العدالة والديمقراطية، في إشارة صريحة للجمع بين العدل والحرية، وهذا ما دار ويدور حوله جدل قديم جديد. لم يريدوا أن يكون ضباطاً أحراراً يجعلون حريتهم عنوان عبودية المواطنين، ولا تصوروا أنفسهم فئة انكشارية عصرية مغلقة تقوم بتدوير السلطة والثروة بين مجموعة صغيرة تقوم برشوة قاعدة اجتماعية صغيرة في الجيش والأمن والمجتمع.
كانت البداية الصحيحة إخراج الجيش من المجال السياسي وحظر الجمع بين رئاسة البلاد وقيادة الجيش لإرساء سياسة مدنية لا يكون مولد الديمقراطية إلا بها ومعها، لأن الجمع بين الرئاستين لون من تربيع الدائرة، جعل الانقلابات في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية صانع العاهات السياسية والخيبات والهزائم من كل لون وحجم. وكل استمرار لهذا الحكم العسكري تأجيل للبداية الصحيحة، ومشكلة السياسة المحورية في مصر اليوم هي نفسها التي بدأت في العام 1952 عندما جمع الرئيس بين الرئاستين، وما تحاوله التعديلات الدستورية في العام الماضي وفي عامنا هذا إنما هو الإمساك بالخيوط كلها حتى لا تغادر السلطة الفعلية مكانها.
وفي الحال اليماني «الشرعية» القائمة بدأت بالانقلاب، وأدارت السياسة من موقع عسكري- قبيلي قبل الوحدة وبعدها، بل إن هذا النسب العسكري الصريح هو الذي قام ويقوم بدور التقويض المستمر لأية بنية سياسية يمكن أن تكون مدخلاً للسياسة المدنية، فمن يصل إلى السلطة بالقوة لا يتخلى عنها بوساطة صناديق الاقتراع، وقد قرأنا في ضجيج الانتخابات الرئاسية ما كتب صراحة عن أن إمكان نجاح منافس الرئيس قد يرغم قوى نافذة على التدخل. والعامل العسكري حاضر في كل حروبنا، وكان شديد الحضور في (حرب) العام 1994 وفي هذه الأيام في حرب صعدة الثالثة. في الأولى بين جيشين وفي الثانية بين الجيش وجزء من الشعب.
هبت رياح التوريث من سدة الحكم الجامع للرئاستين في سورية وفي مصر وفي اليمن وفي ليبيا، وهذا ملمح مائز وشديد الدلالة على أن الانتخابات الدورية ليست السمة المقررة لطبيعة النظام السياسي، وأننا في البلدان العربية قد استبدلنا بالانتخابات الديمقراطية التي تأتي ثمرة تضافر عوامل عديدة ومسار مركب في بيئة ديمقراطية، ديمقراطية الانتخابات الدورية، وشتان بين الإثنتين.
إن النظام العسكري لا سيما في طبعته المتخلفة، وكل طبعاته متخلفة على تفاوت في ذلك، لا يستطيع التفكير في ما لا يمكن أن تتصوره أي سياسة مدنية لا تستند إلى القوة بل إلى الحق الذي يعني الدستور والقوانين. إن مبدأ أن الشعب مصدر السلطات لا مكان له في عقل أو سريرة الحاكم العسكري، لأن الجيش مصدر السلطات على الحقيقة والمجاز معاً، فأفق التفكير هنا لا يزال داخل المجتمع الحربي ومبدأ الغلبة والعصبية الخاصة والجامعة بمصطلحات ابن خلدون، فالشعب بل حتى الأمة في هذا الأفق قبيلة موسعة أو اتحاد قبائل علي أنموذج الاتحادات المعروفة في تاريخ اليمن قبل الاسلام، كما أن الدولة لا تُفهم في هذا السياق إلا في بعدها الأوحد وهو حق احتكار الاستخدام العلني للعنف (ماكس فيبر) لأنه شرط الجباية. إن اختزال وظائف الدولة إلى هذا المبدأ واضح في تجدد القتال في صعدة، وفشل السلطة في إطفاء نار الحرب سبقهما دور لها في صنع «الشباب المؤمن» كان خرقاً للدستور والقانون، ولكنه جزء من تصور سلطة تجمع الرئاستين وكل السلطات في مجتمع لا يوجد فيه في المسافة الشاسعة بين الحاكم والمواطن أي تجمع مدني أو سياسي وسيط وفاعل.
منذ أن طرح مونتسيكيو في (روح الشرائع) مبدأ الفصل بين السلطات، ليكون الفصل استقلالاً وتكاملاً يخلق توازناً اجتماعياً وسياسياً عرفته اوروبا بعد ثوراتها البرجوازية حكماً مدنياً وقومياً في الوقت نفسه، فاكتملت أركان الدولة/ الأمة التي بدأت مسيرتها بعد اتفاقية وستفاليا 1648 التي أنهت الحروب الدينية بين الشعوب الأوروبية.
إن القول باستثنائية عربية أو إسلامية تجعلنا في غنى عن هذه الأفكار ليس إلا دفاعاً عن الدولة السلطانية القائمة في البلدان العربية. فالمطلوب هو التطور في إطار كوني وليس استنساخ تجربة بعينها ليتحقق الاندراج في العصر.
اقترحت غير مرة على الأخوة الكرام في المعارضة، جماعة أو في كل حزب على حدة، طرح مطلب سياسي مؤسِس يقضي برفض جمع رئاستي الجيش والدولة في شخص واحد. فلا بداية أخرى يمكن أن يجترحها العقل السياسي في هذه البلاد أو في غيرها من ديار العرب، التي تتمظهر فيها في صور متجددة عبادة القوة عبر سريان عَرض الطاعة في السلوك اليومي والسياسي. هل يمكن أن تناقش المعارضة أو أي تجمع سياسي هذه الفكرة؟ وهل يمكن أن نستفيد من الدرس السياسي الذي يقدمه اخواننا في موريتانيا؟ إنهم يريدون للديمقراطية أن تكون رافعة لمشروع جديد كان عليه أن يبدأ منذ أول يوم في دولة الاستقلال، وظلت الانقلابات تؤجله حتى آب 2005. هذا التأجيل ليوم البداية الصحيحة هو ما تمارسه الأنظمة العسكرية في البلدان العربية ومنها اليمن السعيد بحكامه.
سترحب البلدان الأفريقية بالتجربة الموريتانية فقد عرفت مالي والسنغال تجربة مماثلة. أما الأشقاء العرب لا سيما في ليبيا وتونس وفي مصر فإنهم إما سيراهنون على عدم خطورة تجربة في بلد من بلدان الأطراف، متمترسين داخل نرجسية «قطرية» ضارية، أو مساعدة مغامر عسكري من أحد الاحزاب على القيام برمية نرد جربت غير مرة... وقد يؤملون على فشل الديمقراطية الوليدة في أن تكون رافعة للإصلاح في بلد مثقل بالمشاكل والعوائق رغم ثرواته في البر والبحر. أما العرب الذين طال انتظارهم للحرية فإنهم يتمنون لاخوتهم في موريتانيا من العرب البيضان والأفارقة السودان الظفر بوطن وشعب سعيد.. وتحية اعجاب وتقدير للنخبة التي قادت وشاركت في صنع يوم الديمقراطية في موريتانيا.
12/3/2007