بلاد أخرى

بلاد أخرى - منصور هائل

صنعاء بلاد أخرى، برانية، و«انفصالية» عن معظم سكانها الذين يغادرونها في عطلة عيد الأضحى، كما في غيره، إلى «البلاد».
وتضيف العبارة بفداحة المعنى: صنعاء بلاد أخرى. ذلك ما تنطق به الافعال قبل الاقوال، ويتساوى فيه الوزير مع الغفير، والعامل مع العاطل، والمعلم مع صاحب المطعم، والتاجر مع صاحب البسطة على الرصيف. ومعظم الزحام والأكداس البشرية التي تتلاشى برمشة عين مخلية المجال للأشباح والنباح والقرّاح -عطفا على الطماش والرصاص- بتصريح جريح، مؤلم، وصادم، يشير إلى انقطاع أصرة الانتماء لصنعاء بما هي «عاصمة» وطن، ومدينة مفتوحة على الفرح والاحتفاء، والسمر، والطرب، والانتشاء، أو أبسط علامة أو أمارة تحملنا على التصديق بأن صنعاء حق هذه الايام، أو صنعاء هذه التي نشهد ونرى هي تلك، قيل عنها وفيها أنها «حوت كل فن»... الخ.
انما.. يا ترى، لماذا يرحل جل سكان صنعاء من صنعاء!؟ ولأن الجواب يسبق السؤال فإن صاحب السؤال سوف يبدو أبله نحن -مع الأسف- بإزاء ما تنضح به الوقائع والشواهد إلى تلك الدرجة التي لا تسمح للمرء باستنطاق البداهة القارحة من رذاذ الذهن، وطرف اللسان، ومن حمى تدافع الحشود وتقاتلها على فوز بمقعد «تاكسي» أو حافلة، وهي تهتف بنسيد يخترق اسفلت الطرقات، وصخور الجبال: «إلى البلاد».. بلادي.. بلادي.
وكأنهم فارون من مقديشو أو بغداد! وكأن صنعاء: بلاد أخرى!
والحال أن جغرافية معنى صنعاء في الأذهان، وهي خارطة ذاكرة التعاطي الثقافي والسلوكي والنفسي من قبل معظم السكان - بما هم سكان فحسب وليس مواطنين- تختلف عن جغرافية معناها المرتسمة في كتب الجغرافيا والتاريخ والادبيات الرسمية والمراسيم الرئاسية بشهادة دامغة من كل تلك المعطيات.
ثم إن «انفصالية» صنعاء عن جل سكانها وعن نفسها لا تتبدى في استشراء مظاهر بدونتها وقبيلتها، أو بافتقارها إلى ما يشير إلى مدنية وتمدن، كمواقع الاجتماع المدني: النادي، الحديقة، السينما، المسرح، وغير ذلك من مساحات الألفة والتعارف والتأنسن والترابط والاندماج.
وحتى لا يكون في الاستطراد ما يصدم ويجرح فإن صنعاء -لا نقصد القديمة الجميلة وأهاليها الأجمل- الفسيفساء ستظل مدينة «شيخ الليل» والعسكر والمخافر واليسك (الطوارئ) إلى أن تصبح مدينة بحق، وذلك امر لا يدعو «القيادة الحكيمة» بأن تقوم بنقل بحر عدن إلى صنعاء، بقدر ما يدعوها لأن تتمدن ولو بمشقة وعناء، حتى لا تذهب صنعاء التاريخ والحضارة هباء.