أول محاكمة للفساد يغيب عنها الفاسدون الحقيقيون.. الأمن القومي كهراوة ضد الشخص الخطأ- نائف حسان

أول محاكمة للفساد يغيب عنها الفاسدون الحقيقيون.. الأمن القومي كهراوة ضد الشخص الخطأ- نائف حسان

مع أن الساعة تجاوزت الواحدة ظهراً، إلاَّ أن قاعة الغرفة التجارية بالعاصمة، ظلت مزدحمة بعشرات، توافدوا إليها قبل العاشر صباحاً من ذات اليوم - الأحد.
لم يكن اللقاء خاصاً بتوزيع تعويضات لمتضرري حرب الخليج، بل ندوة لمناقشة خدمات الحج والعمرة.
توسط المنصة نبيل الفقيه، وزير السياحة، ويحيى محمد عبدالله صالح، بصفته رئيس الجمعية اليمنية لوكالات السياحة والسفر، حين أفتتح محفوظ شماخ، الندوة بكلمة ترحيبية محايدة.
عملياً، كانت الندوة أول محاكمة علنية جادة للفساد، بيد أنها تمت بحضور الضحايا وسط غياب المتهم الحقيقي: وزارة الأوقاف.
بدأ يحيى محمد عبدالله صالح جلسة المحاكمة، بالإشارة إلى اليوم السابق (9 ديسمبر)، المخصص عالمياً لمكافحة الفساد، ثم اتجه لتأصيل الأمر، باستدعاء الفقرة السابعة من البرنامج الانتخابي للرئيس علي عبدالله صالح، القاضية بمحاسبة الفاسدين.
تطرق بقوة لفساد وزارة الأوقاف، متكئاً على عمود ثقة يعرفه الجميع: «نحن في ظل الشفافية». قال يحيى ذلك، كمن يطمئن الحضور لقول ما يريدونه دون خوف.
وإذ أبدى أسفه الشديد لعدم مشاركة الأوقاف، رغم توجيه رسالة رسمية لها، أكد التفافها على قرار مجلس الوزراء، حين استبعدت الكثير من الوكالات واعتمدت اخرى تابعة لقيادات في الوزارة.
تحدث الرجل عن اعضاء لجنتي الحج والعمرة، الذين قال: «لا يهمهم سوى حق الجلسات». تحدث أيضاً عن سيطرة وزارة الأوقاف على لجنة تنظيم العمرة، التي أكد أنها كانت تتخذ قرارات والوزارة تطبق أخرى.
إلى هنا كان يحيى يتحدث بمسؤولية تجاه وكالات السياحة والسفر، التي اعتمدت عليه في خلافاتها السابقة مع الأوقاف، لكنه تحدث بعد ذلك بعقلية سياسي يعرف تماماً ما يجب عليه قوله لخدمة السلطة التي يعمل لصالحها. لقد هاجم الصحف الرسمية بسبب عدم تناولها فساد الأوقاف، وتغطيتها له عبر مهاجمة وكالات السياحة والسفر: «كنا نتمنى أن يعملوا تحقيقات شاملة مع كل الاطراف.. ويطرحوا كل الموضوعات بشفافية». ثم أضاف: «نحن في ظل الشفافية، وهذه الصحف تمثل الشعب. هي تمثل الدولة أمام الغير، أما ما يخص قضايا المجتمع فهي تمثل الجميع».
أكثر من شخص فرد ابتسامة رضى على وجهه؛ وذلك مفهوم ومبرر في قاعة مليئة بضحايا حرمهم متنفذو الأوقاف من العمل، واسندوا للصحف الرسمية مهمة الإساءة لهم.
والحال أن الصحف الرسمية تدافع، باستماتة تستحق الرثاء، عن ممارسي المخالفات والفساد في الوزارات والجهات العامة؛ كما لو أن ذلك مهمة رسالية لها. والشاهد أن مهنة الصحافة أُستبدلت بوظيفة المدح المبتذل.
للوكالات مساوء وأخطاء لا ريب، يمكن تناولها بعيداً عن محاولة تجميل الوزارة أو الدفاع عنها من باب الإساءة للآخرين.
قُدَّمت أربع أوراق عمل قبل أن يأتي الدور على فايز العطاس، مدير المركز اليمني السعودي، الذي أدى احتكاره ل(60٪_) من نشاط العمرة هذا العام، إلى تفجير موجة احتجاج واسعة وسط العاملين في هذا القطاع.
تجاوزت الساعة الثانية عشر والنصف، إلا أن نقاشاً ساخناً بدأ للتو فشد جميع من في القاعة. كان الأمر جيداً لولا أنه استهدف الشخص الخطأ.
«أطلب من الأخ فايز العطاس أن يوضح من هم الأشخاص الذين قام برشوتهم في اللجنة (المشرفة على تنظيم العمرة)، وإلا سأحيل هذا الموضوع إلى النائب العام وجهاز الأمن القومي للتحقيق في القضية». أصر وزير السياحة على طلبه هذا مقاطعاً البدء بقراءة ورقة العطاس.
 كرر الفقيه طلبه أكثر من مرة، وهو ينظر إلى شخص توقف عن قراءة الورقة، وبدأ مرتبكاً يحدق نحو شخص محدد في القاعة: كان العطاس في القاعة، إذ أوكل مهمة قراءة ورقته لأحد موظفيه، معتقداً أن الأمر سيسير على خير.
في تلويحه بالتهديد؛ أخذ وزير السياحة يضغط بشدة على حروف النائب العام وجهاز الأمن القومي. وقد تبدى الأخير، تحديداً، هراوة في يد وزير ذكي، يدرك جيداً مدى الرُهاب الذي يزرعه هذا الجهاز في قلوب الناس.
ظهر فايز العطاس من بين الحضور، ثم صعد إلى المنصة. كان مرتبكاً، كأي شخص لم يعتد حديث المنصات أو التلويح بعصى الأمن القومي.
تعاطف كثيرون مع الجنوبي المرتبك، الذي تطلب وقتاً كي يُسمع صوته مدافعاً: «أنا أبغى أعرف أولاً من هو الشخص الذي بلغ أني قلت هذا الكلام».
الأسبوع قبل الماضي نشرت «النداء» تقريراً، قال فيه مندوبو وزارة السياحة في لجنة تنظيم العمرة، أن العطاس أشاع أنه اشترى اللجنة. اشار الوزير للتقرير، وتقارير أخرى قال إنها أكدت أن وضع المركز اليمني السعودي سيئاً. ثم استرسل ضمن رده على استفسار العطاس: «حين قلنا إن الضمانات يجب أن تسحب أنت قلت: أنا أتحدى أي واحد لأني اعطيت لكل واحدة حقه».
غادر العطاس المنصة، وسط تشديد الفقيه على ضرورة معرفة أعضاء اللجنة الذين تم رشوتهم.
في تصريح لـ«النداء»، أقسم العطاس أنه لم يقل ذلك. مؤكداً تقديمه خدمات متميزة لمعتمدي هذا العام، الأمر الذي لا ينفيه عدد من أصحاب الوكالات المنافسة. وقَّع الرجل، كمستثمر، عقداً مع الأوقاف لاحتكار نشاط العمرة هذا العام. أي حساب عليه أن يتركز بشكل اساسي لمسؤولي الأوقاف، باعتبارهم المسؤولين الحقيقيين عن أي خطأ أو تجاوز.
غاب متنفذو الأوقاف، وحضر مدير المركز اليمني السعودي كضحية، تهدده اللجنة الآن بمصادرة (2.400.000) ريال سعودي، قدمها كضمانات لدى وزارة الأوقاف.
تلاعب مسؤولي الأوقاف بنشاط العمرة، الذي تتجاوز عائداته المباشرة أربعة مليار ريال سنوياً. نُشرت أرقام دقيقة ووقائع تدين مسؤولي قطاع الحج والعمرة في الوزارة، إلا أن أحداً لم يهتم. لم يُطلب من هؤلاء توضيح، ولم ترفع في وجوههم عصا الأمن القومي أو النائب العام.
من يحاسب مسؤولي الدولة المعينين بقرارات جمهورية؟ حين نشر ممثلو شركات «نسما والبركة والظفيري» السعودية مناشدة لرئيس الجمهورية قبل أكثر من خمسة أشهر، أجبروا على الإعتذار تحت الضغط بمصادرة ضماناتهم لدى الوزارة. وتقول مصادر خاصة أن مدير عام قطاع الحج والعمرة في الوزارة ازداد تعنتاً بعد نشر المناشدة، وأقسم أمام كثيرين بأنه لن يسمح لهم بالعمل حتى لو استمروا يناشدون الرئيس لمدة عام كامل. حتى الرئيس لم يعد يخيف هؤلاء! ما العمل إذن؟!
ومع عدم تدخل الرئيس لإيقاف عبث ومزاجية المسؤولين، اضطر ممثلوا الشركات السعودية التودد للمدير العام إياه كي يتمكنوا من استرداد ضماناتهم فقط. بعدها رحلوا دون أن يتمكنوا من العمل، رغم أن لجنة تنظيم العمرة اعتمدتهم.
شكا عدد من اصحاب الوكالات اليمنية الذين حضروا الندوة، من وزارة الأوقاف، التي قالوا إنها تصادر، دون وجه حق أو سند قانوني، أي أموال تصلها، بالخطأ.
تحدث البعض كنماذج رفضت الوزارة إعادة ضماناتهم، فجرى استذكار الضمانات التي تُفرض على الوكالات والشركات، وتتجاوز سنوياً الخمسة ملايين ريال سعودي. كانت الوزارة تضع أموال هذه الضمانات في حساب خاص بالبنك الوطني، تعود فوائدها إلى المتنفذين الكبار. الآن يضع متنفذو الأوقاف الضمانات في حساب خاص في بنك التسليف الزراعي. وقد أكد مسؤول كبير في البنك حدوث خلاف مع الأوقاف بسبب فوائد هذه المبالغ، التي تودع كضمانات يفترض أنها تذهب إلى حساب الوزارة في البنك المركزي اليمني.
لولا يحيى محمد عبدالله صالح ما كان لهذه الندوة أن تُعقد. إنها فكرة جيدة للبدء الجدي في محاكمة الفاسدين شعبياً. إن الرئيس الكاسب الأكبر من هكذا فعاليات، ذلك أنها تضع وعوده بمحاربة الفاسدين على محك الواقع.
حالياً؛ الواقع محبط، لأن الفاسدين يواصلون العبث بصلف متغطرس. لا شك أنهم بحاجة لشخص يمسكهم من آذانهم، فقط، ويقول لهم: ماذا تفعلون؟