.. والمشترك سلطة «رجعية» أيضاً!

.. والمشترك سلطة «رجعية» أيضاً! - منصور هائل

يعود مفهوم «تكنولوجيا السلطة» إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي تقوم اطروحته المركزية على رفض كل اختزال للسلطة الكثيرة في المجتمع إلى سلطة واحدة هي السلطة السياسية المتمثلة في الدولة، وبالتالي اغفاله لعدم تساوي وتكافؤ السلط المختلفة: سلطة الآباء، سلطة الأسرة، سلطة القبيلة، سلطة الاعلام.. الخ من تلك السلط التي تتشكل السلطة السياسية من جماع عصارتها.
وبما أن اختزال كل السلط بالسلطة السياسية، قد برر وسوغ لضبط زاوية توجيه سهام النقد والتشريح والتجريح إلى مرمى واحد ووحيد هو مرمى السلطة السياسية النافذة والمتنفذة، فقد كان من شأن ذلك الاختزال اعفاء بقية السلط من مسؤولية المشاركة، أكان من موقع تشابكها مع تلك السلطة أم من مكامن كمونها كسلط ثاوية، وموازية، متواريه ولها بالغ الاثر في الانشاء، والتوجيه، وصياغة القناعات والعقول وتدبير الحياة.
من هنا تبدو سلطة احزاب اللقاء المشترك -ان جاز التعبير- جديرة بالالتفات المتفحص لدورها بإحاطة لا تعتسف سلطة هذا «المشترك» بتصويرها كوجه آخر للسلطة الحاكمة، أو بمثابة صداها الخافت و المخاتل بنبرة لا ترتفع عن درجة «مسحوق همس» الأخ في الرضاعة!
كما لا ينبغي تفحص «المشترك» من زاوية التباسه بالسلطة السياسية النافذة أو تلبسه مقتضياتها ومتطلباتها سيكولوجيا، أو ترنحه بين طوري الاستواء والاعتلاء فقط.
ذلك لأن حالة «المشترك» تستحث على تجريده من أردية المصطلحات والخطابات التبريرية، والشعارات البراقة بما يفضي إلى تحصيل هيكله العظمي كما هو، وعلى علاته، كهيكل تقليدي بهرميته وتراتبيته وحيث الأكبر يهيمن على الاصغر ويضعه تحت إبطه أو معطفه، وبما لا يمنع الصغير الملفوف بعباءة الكبير في «المشترك» من التنطح للعب دور الكبير على من يعتقد بأنهم صغار ويقعون خارج ذلك الفلك.
.. وفي «المشترك» يتبدى الكبير بحجم حشوده و جحافله الهادرة، وبرأسه المغلظة بمزدوج «كيماوي» اسمه الشيخ.. الشيخ في منتهى أبهة التحامه وتمامه ك :شيخ افتاء وخطيب منبر، وشيخ قبيلة وزامل وخنجر.
ويحتاج «المشترك» -أيضاً- لمقاربة نقدية تطاول موقفه بما هو سلطة أسفرت عن موقف «رجعي» من المرأة وقلصت من حجم ودور ومستوى مشاركتها، وقبلت بدورها كجسد ايديولوجي برسم الرصف بين الكتل البشرية المغلفة بالسواد، والمؤطرة بصراط الطاعة وتعضيد السلطة الذكورية، وبما لا يسمح لها باختراق سقف ذلك الدور المرسوم، لأن سلطة ذلك المشترك وكبيره ترفض وتلفظ المرأة إذا ما تطلعت بفصاحة لممارسة حقها في المشاركة السياسية، وتسنم مقاليد الوزارة والادارة وعضوية مجلس النواب والشورى والمجلس المحلي وغيره.
اما على صعيد الموقف من الحريات فهنالك مسطرة «الثوابت» الطويلة، ومسطرة «الثوابت الاسلامية» بكل ما تستدعيه من تخريجات تستحضر أبو هريرة وابن حنبل وابن تيمية وتضع الحريات على كف عفريت -شيخ حسبة معمم.
العجيب ان بعضهم يتعجب من التقاء اليساري والقومي والاسلامي، مع أن البداهة تجيب بحكاية العصا الواحدة وكيف تكسر اذا لم تلتم مع اخواتها في عصبة واحدة لمواجهة الخصم، وتقول بأن جل هؤلاء من «أهل الجنة» ولا فرق بين من يعد أتباعه بإقامة جنة على الأرض (لك أن تسميها جنة الاشتراكية أو الوحدة العربية) وبين من يقطع لاتباعه تأشيرة دخول الجنة في الآخرة، وذلك هو الحبل السري الرابط بين «المشترك» إلى حين!
ولما كان الغريب والغائب الوحيد هو النموذج العقلاني الديمقراطي، فقد ظهرت مائدة سلطة المشترك وكأنها لا تتسع لاستضافة ذلك النموذج إلاَّ بخجل ووجل، وكانت سخية في تغليب المشروعية التقليدية على المشروعية العقلانية، المدنية والحداثية، وبذلك توفرت على جاهزية مثلى للامتلاء بهتاف «يا حنَّان.. يامنَّان» ولاجتذاب الهتيفة ودفعهم إلى الصدارة و تمكينهم من الالتصاق بمرشح المشترك، والتسابق لانتزاع المايكرفون واستهلال خطابات المرشح أو قطعها بذلك الهتاف الرباني (معروفة قصة الهتَّاف الكبير الذي كان ينطوي على داهية لا يستبعد ارتباطها بسلسلة من الدواهي الكفيلة بدفعك إلى الحنين إلى عهد الرئيس «صالح» وهو الحاضر بغزارة تفيض عن حاجة السوق المحلية).
وازاء ذلك الضرب من الهتاف الذي يستمطر الحل الإلهي برئيس في حملة كان المأمول أن تفرش طريق دخول اليمن إلى الألفية الثالثة عبر طرق ابواب التمدن والعصر والحداثة وليس بحرق البخور والخرق والتعاويذ والتخريفات، أو بالاتكاء على اقتصادات الخلاص، واستثمار الاحاديث والآيات القرآنية بإفراط تمخض عن خلط بين حملة انتخابات رئيس جمهورية وحملة لـ«الفتح المبين».
إلى هنا ونكتفي لعدم اتساع الحيز للمزيد من الانطباعات حول برنامج المشترك، ونأمل بأن لا تفهم الانطباعات الأولية الآنفة وكأنها تنتقص وتبخس الجوانب الايجابية الكبيرة التي انطوت عليها مشاركة «المشترك» في الاستحقاق الانتخابي، وحسن اختياره لمرشحه، وخوضه لحملة انتخابية حركت عجلة المسار السياسي، وزحزحت السكون وهزت «التابو»، وكل ذلك يحسب للمشترك وهو يستوجب التقدير والتأمل والبحث والتوسيع، كما يستلزم التقويم والقراءة النقدية.
mansoorhaelMail