المقطع الثاني... مقاطع منْ: «أصل الحكاية.. كما يرويها عبدالمرتجي البواب»

المقطع الثاني ... مقاطع منْ: «أصل الحكاية.. كما يرويها عبدالمرتجي البواب»

د. ياسين سعيد نعمان
ويواصل عبدالمرتجي حكاية والده قائلاً:
«وفي طريق عودته إلى البيت كانت أحداث ذلك اليوم قد أرهقته. أيقن بعد طول معاناة أن للحياة وجهاً آخر لا يكتشفه إلا المتحررون من أوامر الإنتظار السلطانية. لقد أخذ أمر الإنتظار على محمل الجد عدة سنين، لكن الثورة قررت أن تمضى بدونه، كما هو عادة الثورات العربية؛ وحينها أفاق من حال الإنتظار، أفاق على هزيمة.. هزيمة تمنى معها لو أنه ظل على إنتظاره القديم.. أول هزيمة للمشروع «المنقذ». كان جوهر هذا المشروع هو إعادة إنتاج الشخصية المصرية بامتدادها الحضاري الموغل في أعماق التاريخ لأكثر من أربعة آلاف سنة، في محيطها الذي تفاعلت معه منذ الفتح الاسلامي، لتغدو -بزعامة هذا المصري القادم من صعيدها- على رأس مشروع حضاري قومي جديد. إستمع والدي مساء ذلك اليوم من عام 1961 إلى خطاب عبدالناصر وهو يأمر القوات البحرية التي توجهت إلى سوريا بالعودة إلى مصر.. هاهو المشروع يعود إلى الإنكماش داخل مصر. حاول أن يجمع عناصر المفارقة بينه وبين نفسه: شخصية عبدالناصر كانت تغطي مساحة الوطن العربي كله، لكن مشروعه محاصر داخل مصر، غير مسموح له أن يغادر حدودها. فكَّر، وفكَّر، ووصل إلى نتيجة أسرَّها إلى صديقه «الفوَّال» في جلسة صفاء ذات ليلة من ليالي صيف 1964، بعد خطوة التأميمات الشهيرة، مفادها -كما سجلها في مفكرته- أن هناك قراراً -من مكان ما- بمحاصرة مشروع عبدالناصر داخل مصر، ليسهل ضربه وإسقاطه. وإسقاطه في مصر يعني أن هذا المشروع لن تقوم له قائمة في مكان آخر. وسيكون إسقاطه بإحدى الوسيلتين: محاصرته وتفريغه من عناصر قوته ليتآكل تدريجياً، أو الإجهاز عليه عسكرياً. ويرى والدي أن هذه التطبيقات الإقتصادية والاجتماعية المتعجلة- من غير الاصلاح الزراعي- تُقصي عنه كثيراً من قوى المرحلة، بل وتحولها إلى قوى معادية للمشروع. فبعد أن سارت معه إلى الحدود التي كان فيها الخطاب يستنهض في الأمة الخاملة تاريخاً نشطاً، نجده ما إن تجاوز هذه الوظيفة الإنشادية الترويحية للنفس المهزومة، إلى الفعل المحرِّض على نبش الأسباب الكامنة وراء هذا الخمول داخل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة، حتى راحت تقلب له ظهر المِجَن، واعتبرت نفسها هدفاً مباشراً لهذا الخطاب.. المسألة في هذه الحالة تأخذ منحىآخر، تبدأ إصطفافات أخرى».
ويستدرك عبدالمرتجي: « لكن والدي هنا، ولسبب ما لم يفصح عنه، يسجل ما مختصره أن الإصطفافات التي نشأت كانت من النوع الذي يصعب التنبؤ بنتائجه. ففي إطارها الخارجي صدامية بسبب الفرز السياسي الصاخب الذي يصاحبها. لكنها في حراكها الداخلي بطيئة الإستجابة لهذا الفرز الثوري، بل وخاملة أحياناً، بسبب عدد من العوامل الثقافية والاجتماعية وضعف الحوافز السياسية بسبب غياب الحريات. كما أن الأجهزة الحكومية والأمنية لا يمكن ان تكون حاملاً نشطاً ومخلصاً للفكرة الثورية». ويتدخل عبدالمرتجي هنا بملاحظة مكملة فيقول: « إنه في الوقت الذي استنفر فيه الصخب الثوري كثيراً من القوى الداخلية والخارجية ودفعها للتأهب لمواجهة مشروع عبدالناصر، فإن القوى التي توجه إليها هذا المشروع لم تكن مؤهلة بما فيه الكفاية للدفاع عنه؛ لأنها هي نفسها لم تتوافر لها شروط الإلتحاق به بسبب حِرصْ الأجهزة الرسمية على تغييبها؛ لتقوم بدور الدفاع نيابة عنها، وأحياناً ضدها. إن والدي كان على حق حين أخبر صديقه «الفوَّال» في جلسة الصفاء تلك بأن عبدالناصر أعاد لمصر دورها التاريخي المحوري في تقرير مصير الأمة، لكن طبيعة هذا المصير ستتوقف على الحالة التي ستستقر عندها مصر. وهنا مربط الفرس: فإما أن تشدها معها إلى أعلى، وإما أن تهبط بها إلى المنحدر حيث لا قاع يتلقف المتدحرجين. مصر إذاً هي حصان الرهان الذي يجب أن يخسر المعركة.. هذا ما ركز عليه الأعداء».
 
ويلخص عبدالمرتجي المسألة بقوله:
«أصل الحكاية هي أن أعداء الأمة كان عليهم أن لا ينشغلوا بمواجهة الأصوات العالية هنا أو هناك. كان يكفيهم أن يركزوا جهدهم لإخراج مصر من المعادلة، لتنكشف المعادلة عن خلل عميق لصالح الأطراف التي تعمل في الإتجاه المعاكس.. وهذا ما حدث في يونية 1967».
 
ويشرح عبدالمرتجي أحد وجوه الهزيمة، فيقول:
«بعد هزيمة 1967، ظلينا لأيام نرقب رد الفعل عند العرب، علَّنا نسمع عن هبَّة هنا أو مقاطعة هناك، كما حدث عام 1956. لكن فيما عدا إنتفاضة ثوار الجبهة القومية في عدن يوم 20 يونية من نفس العام وتحرير مدينة «كريتر» في إطار الثورة المسلحة التي كانت تعم البلاد، لم نسمع شيئاً يذكِّرنا بزخم المشروع الذي كان يملأ أرجاء الوطن العربي. كان الصوت الرسمي يتصدر الموقف كله.. وللصوت الرسمي نبرته وحباله الصوتية التي تمتد مسافات داخل حسابات الخصومة والمواجهة مع عبدالناصر ومشروعه، وهو ما جعل هذا الصوت يبدو وكأنه يمضغ حصى في جانب من فمه ويلوك حلوى في الجانب الآخر. إختفى الصوت الشعبي في كل المدن العربية، توارى داخل الهزيمة، وبدا وكأنه يدفع ثمن الحلم كله نيابة عن الأنظمة ولصالحها».
ويواصل:
«لقد اختلفتُ مع من يقول إن الناس، يومَيْ 9و10 يونية، بُعَيْد إعلان الهزيمة، لم يكونوا قد أدركوا حجم الهزيمة التي حلَّت بهم، وأنهم كانوا لا يزالون تحت تأثير الخطاب السياسي التَّعبوي القديم، وأن فترة الحرب كانت أقصر من أن تُحدث تحولاً ملموساً في سيكيولوجيتهم؛ لذلك فقد خرج الناس، كما يرى هؤلاء، يبحثون عن حقيقة ما حدث، ولم يكونوا قد حسموا أمرهم فيما يتعلق بالمستقبل. إن سبب اختلافي معهم هو أنني أسجل الحقيقة من داخل الوجدان الشعبي، باعتباري جزءاً منه، وليس من خارجه، كما يفعل هؤلاء المتفلسفون المتعجرفون الذين يحتفظون لأنفسهم بمعايير خاصة للحقيقة. 9،10 يونية أوقفت توغل الهزيمة إلى الأعماق، أبقتها على السطح بعد أن شحنت الأعماق بروح التحدي.. ولم تبق سوى مساحات قليلة فيها، تجلت في مشاهد الحزن التي فجرت كثيراً من أعمال الإبداع ومقاومة الهزيمة ونقد التجربة.. هاهو الأبنودي في رائعته يقول:
 
عدَّى النهار
 
 والمغربية جاية..
 
تتخفى ورا غصن الشجر
 
وعشان تتوه في السِّكة
 
شالت من ليالينا القمر
 
وبلدنا عالترعة بتغسل شعرها
 
جانا نهار..
 
ما قدرش يدفع مهرها..
 
يا هل ترى الليل الحزين يقدر ينسينا الصباح.
نعم، فشلت الهزيمة في تحقيق الإحتواء الذي كان هدفاً استراتيجياً للحرب، على عكس ما حدث في 1973، فقد كان هناك نصر أعقبه إحتواء..».
وينهي عبدالمرتجي مقطعه هذا من أصل الحكاية بالقول:
«رسم يونيو خطاً فاصلاً بين مستويين لمشروع عبدالناصر: المستوى الأول الذي هدف أن يجعل مصر جزءاً في المواجهة القومية الحضارية مع التحديات الضخمة التي تعطل النهوض العربي. والمستوى الثاني الذي خرج من داخل الهزيمة مثقلاً بشروطها، وإن كانت شخصية عبدالناصر قد أطلقت فيه بعض عناصر المستوى الأول على الرغم من الضغوط التي تعرضت لها مصر، بما في ذلك الضغوط على رغيف الخبز، الذي كان عليه أن يتنازل عن جزء من حجمه ومن قيمته الغذائية لصالح المجهود الحربي. غير أن العناصر الإنكماشية داخل هذا المستوى من المشروع قد تميزت بقدرة كبيرة على تبرير المنطلقات الجديدة لسياسة الأولويات التي أفرزتها الحرب ونتائجها. ولم تكن البلاد العربية في وضع يسمح لها بدعم العوامل المقاومة لهذه العناصر الانكماشية، بل إنه حتى «لاءات» الخرطوم الثلاث لم تلبث أن دفعت بنقيضها من داخلها بسبب الحسابات الخسرانة والخاطئة التي ظلت تشير إلى الخطاب الثوري القديم في مرافعاتها السياسية ضد الهزيمة باعتبارها هزيمةً لهذا الخطاب ولأصحابه. وعلى العكس من ذلك راحت تشجع العناصر الإنكماشية وتدفع بها إلى السطح كعنوان بارز لإنشغال مصر بهمومها وترك الآخرين وحالهم. وكان ذلك بداية عهد جديد يتم فيه ترتيب «البيت العربي» على نحو آخر وبأسلوب مختلف، قوامه طروحات القوى التي قدمت نفسها كبديل للخطاب الثوري «المهزوم» والتي أخذت تتمدد في المساحات التي سحبتها الهزيمة من الشرعية الثورية بوعود الإستجابة لمتطلبات الواقع الجديد، بما في ذلك السلام مع إسرائيل، عبر الاتفاقيات المنفردة».
«ولكن ما هو هذا الواقع الجديد؟» يتساءل عبدالمرتجي، ويرد بما يمكن تلخيصه بأنه لم يكن سوى المشروع الآخر الذي همشته الثورة، وآن له الآن أن يخرج من مخابئه، ويلملم أطراف نسيجه المهترئ، ولكن بألوان جديدة مغرية لكل من أخذ يضيق به الحال من حالة التعبئة المتواصلة للثأر من الهزيمة.
> المقطع الثالث - العدد القادم
 
المقطع الأول
 
المقطع الثالث
 
المقطع الرابع