مقاطع منْ: «أصل الحكاية.. كما يرويها عبدالمرتجي البواب»

مقاطع منْ: «أصل الحكاية.. كما يرويها عبدالمرتجي البواب»

المقطع الأول:
.. ويمضي عبدالمرتجي في سرد الحكاية منذ أن عرف سرَّ أبيه في تلك الليلة التي سمعه يتحدث فيها إلى صديقه «الفوّال» ويخبره بأن «اليوزباشي» قائد المعسكر، الذي يعمل فيه حارساً، طلب منه أن ينتظر مهمة ما ستوكل إليه عما قريب؛ وكيف أن هذا الطلب جعل والده سعيداً على نحو أصاب أفراد الأسرة بالدهشة وهم يشاهدون الأب المهموم والكئيب دوماً على تلك الحالة من السعادة حيث راح يدندن بأغنية ليلى مراد «أبجد هوز..» ويتماوج مع لحنها صعوداً وهبوطاً، ويتوقف عند كلمة «منسجم» ماطَّاً شفتيه إلى الأمام مع آخر حرف فيها.
يقول عبدالمرتجي: «أما أمي فقد علا صراخها بعد أن أيقنت أنه قد تعرَّف إلى إمرأة أخرى.. ألم يقل بعظمة لسانه إن وراء الرجل السَّلي داخل بيته إمرأة أخرى خارج هذا البيت؟ غير أن والدي تركها تصرخ وتركنا في حيرتنا. لم يبُح لنا بذلك السر الخطير الذي باح به لصديقه «الفوَّال»؛ ربما لأنه كان يخشى من تسربه في لحظة من لحظات الغضب التي كانت تجتاح والدتي. وعلى الرغم من أن والدتي كان لها رأي مخالف وهو «أن الرجال لا يظهر عليهم الهمُّ داخل بيوتهم إلا حينما تسيطر على حياتهم إمرأة أخرى خارج البيت»، لكنها في تلك الليلة تناست قاعدتها وتمسكت بقاعدة والدي وواصلت صراخها محتجَّة بتلك القاعدة التي ظلت ترفضها طويلاً. أما والدي فقد سجَّل في مفكرته فيما بعد: «قالوا في الأمثال: أنْ تغضب خيرٌ من أن تكره». ثم راح يشرح رأيه في المثل بأن الغضب الذي يعبر عن إحساس بالألم يقترن بمساحة الحرية عند الإنسان، والإنسان السوي هو الذي يكون قادراً على ضبط الغضب عند حدود معينة كي لا يتحول إلى حماقة. والغضب الذي يتحول إلى حماقة هو عدو حقيقي للأسرار العائلية، فإذا ابتليَ أحد أفراد الأسرة بداء الغضب هذا - وكان يلمِّح بذلك لأمي- أصبح البيت مكاناً طارداً للسر، ويكون اصحابه اتعس مخلوقات الله؛ لما يكتنف حياتهم من إحساس بفقدان أهم ركن من أركان الإنتماء إلى المصير الواحد.. الإنتماء الذي يجعل الحياة ممكنة التدبير والاحتمال على ما بها من صعوبات. ويقول والدي: «لذلك، في اليوم الذي أصبح لنا فيه سرٌّ يعتدُّ به وقررت أن ألم شمل أسرتي حوله، إكتشفت أن الوقت كان قد فات، لأن الغضب تمكن من أم عبدالمرتجي فلم يعد باستطاعتها أن تلجمه لتحفظ السر. وأخطر ما في الأمر هو أنني اكتشفت أن منزلي بلا سقف، وأن الابواب التي نوصدها بإحكام عندما يجن الليل لا تحرس غير أثاث مهترئ خالٍ من أي رابطة روحية أو معنوية كتلك التي تكتسبها الأشياء في البيوت التي تكتم الأسرار».
لكن عبدالمرتجي الذي تلصص على والده واكتشف سره في تلك الليلة بعد لقائه مع صديقه الفوَّال، لم يخفِ عن والدته السرَّ الرهيب وسارع إليها يخبرها. ويقول عبدالمرتجي: «أسرعت إلى أمي أخبرها بما سمعت، لكن أمي كعادتها، لم تكن ترى أبي صالحاً لأي مهمة ذات شأن، لذلك فإنها لم تستوعب خطورة ما ينتظره من مهمة، وراح بالها إلى مكان آخر غير المكان الذي استقر عنده حدسي، لا سيما وأنني كنت قد قرأت في مفكرته بعض العبارات الغامضة عن رد الفعل الغاضب عند الجيش لهزيمة 1948 في فلسطين، وسوء الأحوال السياسية، وضرورات التغيير، ناهيك عما لاحظه من نشاط غير عادي في ثكنته العسكرية مما ينبئ بأحداث هامة. وعندما حاولت أن أشرح لها ما ينتظر والدي من مهمة خطيرة كي توفر له الهدوء وراحة البال فيما تبقى من أيام الانتظار، أشاحت بوجهها وصرخت قائلة: « وهل تعرف سلالتكم المحترمة شيئاً غير الإنتظار؟! عموماً سيطول انتظاره، وخذها مني! أب ميت أفضل من أب منتظر!». ثم يواصل عبدالمرتجى:
تساءلت مع نفسي: ألا يبذل والدي جهده لإسعادنا؟ صحيح أن عيشتنا متواضعة، ولكن ما الذي كان عليه أن يعمله لتحسين أحوالنا ولم يعمله؟! أدركت بعد شيء من التفكير أن الخصومة عند بعض الناس تسبق السبب، ونحن العرب ننتمي إلى هذا اللون من الناس الذين يختصمون لأسباب مجهولة، فإذا ما استعصى خصامهم وفَّروا له الأسباب بعد ذلك من داخله. ألسنا نحن دون خلق الله جميعاً من تطيَّر من العطر فنسبنا إليه الحروب حينما لم نجد سبباً كافياً لسفك الدم بين الاخوة، لنجد شاعراً بمنزلة وحكمة زهير بن أبي سلمى ومكانته في العقل الثقافي العربي يقول:
                                        تداركتما عبساً وذبيان بعدما
                                                              تفانوا ودقُّوا بينهم عطر منشم.
و«منشم» هي إمرأة جاهلية من «مكة» كانت تصنع العطر فيقال: «أشأم من عطر منشم».
ويتذكر عبدالمرتجي أن تلك الليلة كانت من ليالي الصيف، وأن الضوضاء المنبعثة في الشارع استمرت إلى ما بعد منتصف الليل. أما والدته، كما يقول، فقد ظلت -على غير عادتها- في انتظار أبيه بعد أن أسرَّ إليها بحكاية الانتظار تلك.
يقول عبدالمرتجي:
«ما إن دخل والدي المنزل حتى أخذتْ تقرِّعه بدون مقدمات وتذكِّره بحكاية الموظف الذي أصابه الطرش فجأة مع آخر كلمة سمعها من مديره، وهي: «إنتظر!» فظلت تطن في أذنه لا يسمع سواها ولا يفقه من شؤون الدنيا غيرها. ولا أدري إذا كان والدي قد أدرك في تلك اللحظة مقصدها، فلم يكن متأكداً من أن سره قد ذاع. غير أنه تحاشاها كعادته. وبعد زمن وأنا أراجع مفكرته، وجدته قد سجل فيها بيتاً من الشعر ل «علة بن الحارث الجرمي اليماني»:
                                       وما بال من أسعى لأجبر عظمه
                                                           حفاظاً ويبْغي من سفاهته كسري».
ويواصل عبدالمرتجي:
«لكن انتظار والدي، فعلاً، طال كما توقعت أمي. فقد مرَّ الحدث بصخب وسمعتْ به الدنيا كلها، وغادر الملك ميناء الإسكندرية، وخرج العسكر من ثكناتهم إلى مواقعهم الجديدة. ولم يعد والدي يرى ذلك «اليوزباشي» الذي طلب منه الإنتظار، يدخل أو يخرج من ثكنته، حتى جرَّته الصدفة ذات مرَّة إلى مدخل بناية مهيبة في أحد الأحياء الراقية، فتوقف من باب الاستطلاع يتطلع في الزحام المحيط بباب البناية، وفي وسط الزحام شاهد طابوراً من الجنود يؤدون التحية لشخص بدا من إهاب الموقف أنه مهم. بدت له هيئة الرجل مألوفة. زمَّ عينيه ليتبين ملامح وجهه، فعرف فيه «اليوزباشي» صاحب الثكنة الذي طلب منه الإنتظار، لوَّح له بيده ليذكره بأنه لا يزال في انتظار التوجيهات، لكنَّ السيارة كانت قد ابتلعته وارتجَّت مؤذنة بإنطلاقة سريعة. أما المرَّة الثانية التي شاهده فيها فكانت على صفحة إحدى الجرايد ضمن عدد من المودِّعين لجمال عبدالناصر لدى مغادرته مطار القاهرة إلى مؤتمر عدم الانحياز في باندونج. يومها قرر أن يذهب إليه ليستفسره عن المهمة. لكنه، وقبل أن يحسم أمر الزيارة، رآه رؤيا العين للمرة الثالثة في شارع «فؤاد» يسير وحيداً شارد الذهن، يتطلع في واجهة المحلات التجارية. إقترب منه، لم يتبين من نظرته إنْ كان قد عرفه أم لا، لكنه رأى في عينيه إنكساراً لم يستطع معه أن يفاتحه في موضوع الإنتظار. حينذاك إقتنع والدي بعدم جدوى الإنتظار، تنبه إلى أن الدنيا من حوله قد تغيرت، ووجد نفسه يعبر جسراً من الزمن المكتظ بالأحداث في غمضة عين ويهتف مع حشد من الناس تجمعوا في ميدان التحرير: «الوحدة أو الموت». هتف من أعماقه، وتوزع بين مقدمة الحشد ومؤخرته يهتف ويحرِّض، حتى جاء من يسأله عن الأخبار، وعن القوة العسكرية البحرية التي تحركت صوب دمشق.. تأخر في الرد.. تلعثم، فقد بدا له السؤال غريباً، لكن أحد الشباب المتحمسين تولى الرد نيابةً عنه فأنقذه من الحرج».
يكشف عبدالمرتجي جانباً مما جاء في مذكرات والده الذي يقول:
«لم أكن أعرف لأي وحدة يهتفون، لكنني كنت جاداً في الموت من أجلها أياً كانت. وبينما رحت أتهيأ للخطوة اللاحقة التي ستضع هذا الحشد، وأنا معهم، على طريق الموت من أجل الوحدة، رأيتهم يتفرقون ويغادرون المكان. فقلت لنفسي: لا شك أن المسؤولين قد أدركوا عزم هؤلاء الرجال على الموت فعلاً، فأنقذوا الوحدة من الضياع. وشعرت بالفخر والرضى في نفس الوقت، وتأكدت أن لا مستحيل أمام خيار الموت. ولمزيد من التأكد، سألت أحدهم: لماذا تفرَّق الناس؟ هل استجابت الحكومة وأعادت الوحدة؟!
حدجني بنظرة متجهمة وساخرة في آن، وقال: «تستعبط»!!، وتركني ومشى. كنت آخر من غادر ساحة التجمهر، لم تتمكن قدماي من مواصلة السير، فقد ارتخى جسمي الذي كان إلى وقت قريب مشدوداً بفكرة الموت، أصبح ثقيلاً، لم أكن أشعر بثقله إلا في لحظات الإحباط. أويت إلى ظل شجرة، ورأيت نفسي فيما يرى النائم أقطع أرض العرب طولاً وعرضاً، وفي كل مدينة عربية أحط رحالي فيها أرى الناس يهرعون نحوي يسألونني عن الوحدة ويطلبون إضافة اسمائهم إلى قافلة الموت من أجلها؛ ثم اكتشفت أن الاسماء التي سجلتها كانت كلها مزورة، فقد اختصم إثنان في أحد طوابير التسجيل الطويلة بسبب الزحام الشديد فكشف كل منهما سر الآخر بتزوير إسمه. وتحققت من الأمر عندما أخبرتني عجوز بالحقيقة، وقالت إن الجميع يزوِّرون اسماءهم، لا أحد منهم يعطي إسمه الحقيقي. ورأيت الواقفين في الطابور يقهقهون ويتندرون بعبطي، فمزقت الكشوفات. ولما بدأت أعي ما حولي، رأيت الحياة قد عادت إلى سابق عهدها، كان الناس يبتاعون ويشترون ويتزاحمون وينكّتون... اسقطوا فكرة الموت من حسابهم، ربما لأنهم ايقنوا أن للوحدة طريقاً آخر غير طريق الموت، أو أنهم تخلوا عنها عندما تبين لهم جدية العلاقة بينها وبين الموت... لا أدري، لكن المؤكد أن ما حدث كان قد نبه الناس إلى أن الحلم والواقع صنوان، يتعذر الإستغناء عن احدهما، فبينما يحملنا الحلم على جناح الآمال العريضة بحياة أفضل، يكون الواقع دليلنا الصارم، بأدواته المتاحة، نحو هذه الحياة».
 
المقطع الثاني
 
المقطع الثالث
 
المقطع الرابع