لموت ينتظر الفقراء على أبواب المستشفيات!

إذا ما تهيأ فقير لإسعاف أخ  له أو صديق أو جار، عليه أن يتحسس جيوبه أولاً، علها تذكره بفقره، حتى وإن همَّ بالتوجه إلى مستشفى حكومي؛ إذ لا فرق حالياً بين سلوك أي مرفق من المرافق الصحية الحكومية وبين القطاع الخاص، فكلٌّ منهما لا يبحث إلا عن مصلحته، ومن ثم لا ينظر إلى هذه المهنة إلا على أنها ميدان من ميادين الكسب؛ الأمر الذي جعلهما معاً أبعد ما يكونان عن أخلاقيات هذه المهنة وعن رسالتها الإنسانية النبيلة والسامية.
من يرى الناس وهم يتدافعون كالطوفان باتجاه المستشفيات الحكومية يهيأ له أن هذه المستشفيات مازالت تعمل مجاناً، شأنها شأن نظيراتها في أي دولة نامية، كالصومال مثلاً أو أفغانستان أو السودان، بينما حقيقة الأمر أن هذا الدخول السهل إليها هو مجرد استدراج كمن يستدرج فأراً إلى "محنبـ" (مصيدة) ليلقى حتفه بعد عذاب ومعاناة.
كثير من الفقراء يتوجهون إلى هذه المرافق اعتقادا منهم أنها ملزمة بتقديم خدماتها بتمويل من عائدات بترولهم وغازهم، ومن القروض الدولية التي هي في الأساس دين عليهم وعلى أبنائهم وأحفادهم، ومن الضرائب المستقطعة عليهم من خلال أكثر من وعاء ضريبي، ومن زكواتهم، فضلاً عما يدفعونه يومياً لصناديق النظافة والتحسين بعد كل شيء يبتاعونه أو يشترونه، وما يضاف عليهم من مبالغ في فواتير الكهرباء والمياه والتلفون...
إذا ما قدر لأحدنا أن يرافق مريضاً أو مصابا، بحيث يقترب من غرفتي الطوارئ والعمليات في أي مستشفى حكومي، سيشاهد العجب العجاب: أناساً يأتون بمصاب جراء حادث تستدعي حالته سرعة إنقاذه بغض النظر عن لقبه وعن خلفيته الاجتماعية وعن وضعه المادي، فإذا بهم يعاقون عن إنقاذ مصابهم، بحجة ضرورة دفع الرسوم أولاً، الأمر الذي  يضطر البعض منهم إلى محاولة رهن ما يجده متاحاً للرهن، وأغلبها تلفونات؛ ليفاجئوا برفض المختص، لأن التلفون قديم ولا يساوي مبلغ الرهن! النقاش في هذا الأمر يأخذ وقتاً قد يمتد طويلا يكون عنده المصاب قد فقد جزءاً كبيرا من دمه وربما شارف على مفارقة الحياة.
مشهد آخر نجد فيه امرأة تحاول إنقاذ ابنها بوضع خاتم جارتها رهناً مقابل الإفراج عن الأشعة المحورية بغية عرضها على الطبيب المختص بعد عناء بحث عن مثل هذا الرهن، في حين أن الثانية والدقيقة التي تمر من حياة هذا المصاب ربما هي الفيصل بين بقائه أو انتقاله إلى العالم الآخر، الأمر الذي يجعل المتابع لهذه التعقيدات  اليومية يجزم بأن حاجة المستشفيات لخبراء متخصصين في فحص الأدوات والأشياء القابلة للرهن لها الأولوية على حاجتها لبروفسورات وجراحين متخصصين وأكثر من غرفة طوارئ ومعدات حديثة وعلاجات مجانية لمواجهة الحالات التي تلجأ إليها والتي هي في الغالب حالات فقراء ومعدمين يعانون جميعهم من صعوبات في معيشتهم اليومية، إذ تعجز كثير  من الأسر التي ترافق مرضاها عن توفير عقار مسكن لا يتجاوز ثمنه مئات الريالات، بينما إذا ما حاول جميع أفراد أي أسرة فقيرة جمع ما يقابل رسوم إجراء كشافة محورية فإنهم لا يقدرون على ذلك، كون الفقر قد أجهز عليهم ولم يبق لهم غير التسليم بقضاء الله وقدره.
كثير من الفقراء الذين يلجؤون إلى هذه المستشفيات اضطرارا، والذين يعانون من إصابات معظمها ناجم عن حوادث ويحتاج إلى سرعة معاينة وفحوص وأشعة وإجراء عمليات مستعجلة وتوفير العلاج اللازم؛ كثير منهم يفارقون الحياة، كون كل تلك المتطلبات يلزمها أناس قادرون على تغطية تكاليفها أو وساطات نافذة تعفيهم منها.
مأساة الطالب حمزة عبد اللطيف ارحبي، الذي لا يتجاوز عُمره سبعة عشر ربيعا، والذي فارق الحياة في مستشفى الثورة بإب يوم الأحد 12/4/2009 بعد رحلة عذاب استمرت يوما كاملا بدأت الساعة السابعة صباحا، لحظة سقوطه من على دراجته الهوائية التي اعتاد ركوبها بعد صلاة فجر كل يوم طمعا في خلو الشوارع من المارة، والذي تم إسعافه على الفور إلى المستشفى المذكور، لتبدأ معاناته هناك يوما كاملا، ولتنتهي بموته، نتيجة تعقيدات المادة التي حالت بين إنقاذه وبين موته الذي أبكى البشر والشجر والحجر؛ من رهن تلفون زميله وعدم قبوله شكًّا في صلاحيته أو لرُخص ثمنه مقابل إجراء الأشعة المحورية لرأسه، إلى حجز نتيجة الأشعة حتى تدبير الرسوم ما يقابلها، إلى رهن خاتم  إحدى قريباته لشراء العلاج من الصيدليات الخارجية مرهونة حياة أي مصاب بنزيف الدماغ بهذا العلاج وبمدى توفر ثمنه لدى أسرة المصاب، وبتواجد الطبيب المختص الوحيد القادر على مصل المصاب بكمية من العلاج المشترى، إلى رهن حياة العديد من المصابين في حوادث يومية بتواجد الطبيب المختص...
موت هذا الطالب في جزء من أسبابه يندرج في إطار العبث والاستهتار بأرواح الآخرين، وبالذات الفقراء منهم؛ ليس من قبل القائمين والمختصين في هذه المرافق فحسب، بل من قبل الدولة ذاتها، التي أفرغت هذه المرافق الخدمية من مضمون رسالاتها الإنسانية حين كانت تقدم خدماتها مجاناً، لتحولها إلى  قنوات إيرادية في سابقة لم تعهدها ولم تسلكها حتى الآن  كثير من الدول النامية، بالذات التي تعاني من مشاكل اقتصادية ومعيشية ربما تفوق مشاكلنا بكثير.
هذا الموت الذي أبكى الناس جميعاً أبكاني أيضا، كونه يتعلق  بموت إنسان لم تسعفه المادة أو الجاه أو النفوذ ليحول دون تدهور حالته بالشكل المريع والمخيف الذي بدا عليه وعجل بموته، بينما إذا عطس غيره من أبناء المسؤولين وجد نفسه نزيل كبريات مستشفيات أوروبا. هكذا يموت أبناء الفقراء أمام أعين آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم، دون أن يقدر أحدهم على مد يد العون بغية إنقاذهم، إذ لا يملكون عند هذا المشهد المبكي والمدمي للعين والقلب غير الدموع وتوسل الخالق أن يشفيه أو يسهل عليه سكرات الموت، وأن يرحمه ويشمله بعفوه ومغفرته ورضوانه.
y.alsadahMail