كيف تحولت خربة الجوف الآثرية منطقة للنافذين.. الحفارون سرقوا القبور وهربوها من تحت منازلهم

كيف تحولت خربة الجوف الآثرية منطقة للنافذين..الحفارون سرقوا القبور وهربوها من تحت منازلهم

الجوف - مبخوت محمد
لا يحتمل صالح نسم، 48 عاماً، الابتعاد عن دياره من محافظة الجوف، لكن هذا الرجل بإمكانه أن يتحدث كخبير إنشائي عن منطقة حدة بالعاصمة. إنه يمتلك معلومات وفيرة عن شوارعها ومبانيها ومتنفساتها والمساحات الخالية فيها.
«لم أكن اهتم بحدة حتى التقيت بالرئيس علي عبدالله صالح قبل 7 سنوات، ومن حينها وأنا أزورها» قال لـ«النداء».
لا يأبه لأمر العاصمة. وحين يقصدها يستعين بآخرين لإرشاده إلى حدة. هناك حيث بإمكانه أن يتخيل حلمه الموعود.
«وعدني الرئيس أن يعطيني بيتاً في حدة مكافأة لي لأني لم أبع القطع الأثرية للسماسرة وفضلت التعامل مع الدولة».
في أغسطس 2002 التقى نسم برئيس الجمهورية لتسليمه قطعاً أثرية استخرجها و آخرون من تحت منازلهم.
الآثار كانت عبارة عن معاصم، خواتم، مسابح، خرز، قطع مرمر ورخام، بالإضافة إلى مجوهرات تزن نصف كيلو من الذهب الخالص كانت داخل قبر بجوار هيكل عظمي، يعتقد أنه لملكة من الجوف.
«سلمت الآثار إلى الرئيس وأعطاني شيكاً ب11 مليوناً.
يقيم نسم في خربة همدان، المدينة الأثرية المطمورة.  يمتلك منزلاً من ثلاثة طوابق. إلى منزل نسم يوجد 300 منزل ومدرستان ومسجد.
 بالنسبة لقاطني خربة همدان كانت الزراعة مصدر الدخل الاساسي لهم، لكنهم منذ 20 عاماً لم يعودوا يكترثون لصفاء سمائهم من السحب.
الجفاف يهدد الحقول فقط أما أبناؤها فقد قرروا التنقيب عن الموتى والاعتياش من قبورهم.
«في 1997 شكلنا، أنا وخمسة آخرون من أبناء المنطقة، مجموعة لاستخراج الآثار، وحددنا مكان الحفر تحت منزلي وبعد شهرين من الحفر وجدنا الآثار». وزاد: «حدث خلاف بين أفراد المجموعة حول الذهب وتدخلت والتزمت لهم ببيع الآثار بعشرة مليون».
رفض نسم بيع الآثار إلى السماسرة الذين عرضوا عليه 20 مليون ريال، وحين سلمها للرئيس حصل على 11 مليوناً، وقد شكا للرئيس إهمال الجهات الرسمية في الجوف للآثار.
كانت عملية الحفر لمجموعة نسم بمثابة تدشين مرحلة جديدة أتسمت باعمال الحفر تحت المنازل وخلال فترة وجيزة صارت الخربة المصدر الأول للقطع الأثرية، وبؤرة نشاط السماسرة وتجار الآثار، أجانب ويمنيين.
ازدهرت تجارة الآثار في الخربة. وازدهرت الحياة أيضاً. صار أبناؤها يحوزون على المناصب العليا في المحافظة والدرجات الرفيعة في الجهازين الاداري والأمني، فضلاً على أن ثلاثة من أبنائها يقودون ثلاثة أحزاب سياسية في المحافظة.
 أثبت أبناء الخربة أن الحفر تحت المنازل أجدى بكثير من الحفر في المزارع.
 
***
فن التهريب وضوابطه
 
تحتضن الجوف اهم المدن الأثرية في اليمن. لكن آثارها لم تكن يوماً محل اهتمام المسؤولين في الدولة. وعلى مدى عقود تسرب التاريخ الذي تكتنزه إلى فاترينات العرض في عشرات المتاحف العالمية.
 نشاط شبكات التهريب صقل مهارات الحفارين وطوَّر خبرتهم  في التعامل مع القطع الآثرية. صالح علي، 32 عاماً، قال: «كثير من المحفرين لا يمتلكون الخبرة الكافية للتعامل مع الآثار وطريقة اخراجها، وأعرف كثيرين عندما يواجهون صعوبة في استخراج قطعة أثرية يفقدون أعصابهم ويقومون بتكسيرها».
يتحدث صالح بنبرة معلم محيط  بصنعته: «تربة الخربة قوية ومتماسكة تسمح بالنزول إلى مسافات طويلة وتكوين انفاق بدون مخاطر، أمَّا مدينة معين ومدينة السودة فإن تربتهما طينية رخوة وقابلة للانهيار».
مدللاً بمصير حفارين لقيا حتفهما داخل حفرة في معين بسبب التربة.
لم يتمكن صالح من إكمال دراسته الجامعية بسبب إنهيار ظروف أسرته المادية فقرر الالتحاق بجامعة حفاري الآثار.
 «أول عملية كنا سبعة. بدأنا بالحفر في الخربة ووصلنا إلى 6 أمتار تحت سطح المدينة حينها ظهرت لنا علامات مبشرة، فواصلنا الحفر... وقد اصطدمنا بأحجار كبيرة مصقولة تبين لاحقاً أنها حجارة لأحد جدران معبد».
تابع: «كان المعبد به أرضية مستوية وبه درج قادتنا إلى قبر حجري عثرنا فيه على قطع ذهبية وبرونزية وداخل القبر عثرنا على مجوهرات ذهبية وفضية وعظام، وحجرة مصقولة كبيرة منحوتة عليها صورة أمراة، وتماثيل بشرية وحيوانية».
بلغت قيمة القطع الاثرية التي استخرجها صالح ورفاقه في عمليتهم الاولى  7 ملايين ونصف وقد جرى تنظيم العمل لاحقاً، حيث تم تقسيم الحفارين إلى مجموعات، يتولى مسؤولية كل مجموعة أمين.
يقوم أمين المجموعة بقيادة فريق العمل والاحتفاظ بالقطع الأثرية المستخرجة والتفاوض مع المشتري وتقسيم الأموال. إلى هذه المهام كان صالح يقوم بتوجيه فريقه أثناء استخراج الآثار: «كنا نعمل بشكل متواصل وفتحنا أنفاق وصلت إلى 8 أمتار وكانت تسمح لنا بالجلوس والتحرك بشكل سلس رغم قلة الأوكسجين في الاعماق».
أضاف: «عملية استخراج الآثار تستغرق احياناً وقتاً وجهداً، كنا نقوم بتنظيف القطع بواسطة السكاكين وأدوات صغيرة، كي لا نكسر التماثيل».
في الجوف غابت الدولة مفسحة الطريق للحفارين وتجار الآثار كي يستبيحوا تاريخ البلد وتراثه. يقول صالح: «لا نشعر بالخوف وما نقوم به ليس جريمة وإلا لكانت الدولة منعتنا، وهنا (في الجوف) معروف أن كل موقع أثري مملوك لقبيلة، أغلب المشترين معروفون وبعضهم لديه تصاريح من الحكومة».
 الطريق إلى مقتنيات الموتى محفوفة بالمخاطر: ثعابين وعقارب وانهيارات أرضية... لكن المهمة تستحق التضحية وأحياناً الاقتتال...
يحصل أن ترتطم مجموعات الحفر ببعضها في الأنفاق تحت الأرض. وأحياناً تصل أكثر من مجموعة إلى المكان في أوقات متقاربة، فتزعم كل مجموعة أنها صاحبة السبق!
يقول يحيى ناجي، 43 عاماً: «عندما كثرت الخلافات قمنا بتحكيم قبلي، وصدر حكم قضى بأن لكل شخص حرية الحفر تحت منزله وما يتبعه من حوله كالزرائب والأحواش فهو ملكه».
عقب صدور الحكم قام الآهالي بعملية توسع لزرائبهم وأحواشهم وازاحوها إلى الطرقات داخل المدينة، ولم يبقى مساحة غير مملوكة سوى أزقة ضيقة بين الزرائب.
بحسب يحيى ناجي، كانت خربة همدان موقعاً عسكرياً للقوات المصرية إبان الثورة اليمنية 26 سبتمبر، وبعد مغادرة تلك القوات، انتقل بعض القبائل التي كانت تقطن منطقة «ضمان» المحاذية لوادي الجوف (كيلو شمال خربة همدان).
وقال: «القطع الاثرية في الخربة كثير وهي مطمورة بالتراب. فيها معابد كبيرة واعمدة لازالت قائمة رغم البناء عليها».
لم تقتصر مهنة الحفر على شباب الخربة فقط، بل «معظم الأهالي التحقوا باعمال الحفر». بالنسبة للمقتدرين مالياً كانو يستقدمون عمالاً بالأجر اليومي. حتى النساء انظممن لأعمال الحفر، ووبعضهن أتين بعمال براتب شهري بين (15-20) ألف ريال.
في فترات معينة يتوقف الحفارون عن إحداث ثقوب في جسد الخربة. التوقف. لا يتجاوز  الشهرين، وبحسب صالح نسم، فإن توقف أعمال الحفر يقتصر على موسم الأمطار.
نسم الذي امتلأ بشعور الولاء للوطن كونه لم يتعامل مع السماسرة، يعتزم استئناف نشاطه السابق الحفر بحثاً عن الآثار: «لم يحدث تغير رغم أن الرئيس وعدنا بالاهتمام بالمنطقة وتوجيه المسؤولين في المحافظة وهيئة الحفاظ على الآثار القيام بواجبها ومنع الحفر، لكن لم يحدث شيء».

***
 
سلطة المحفرين
  
يستغرب محمد صالح حزام عضو المجلس المحلي للمركز من استمرار اعمال الحفر وتخريب المواقع الاثرية دون أن تستفز العاصمة. هو حمل الجهات الرسمية المسؤولية التاريخية ازاء استمرار تدمير آثار الجوف.
وقال إن هذا دليل على عدم وجود الحس الوطني لدى الجهات المختصة.
 جميع مسؤولي المحافظة يعيدون سبب الحفريات إلى عدم توفير فرص عمل للشباب وانتشار الفقر.
لكن ما من أحد من المسؤولين هؤلاء عبر عن احتجاجه على عدم معالجة الاوضاع وتواطؤ العاصمة مع المحفرين.
لكن استمرار العبث بالآثار أثناء فترة ادارتهم لشؤون المحافظة يلزم فتح تحقيق لتقاعسهم عن اداء مسؤولياتهم أو تورطهم في العبث.