قضية الدكتور القدسي ومسؤولية المجتمع المدني

قضية الدكتور القدسي ومسؤولية المجتمع المدني

أمين محمد شرف
بين الاعتداء على الدكتور درهم القدسي في مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا، واستشهاده، ثلاثة وعشرون يوما، وبين استشهاده واليوم، الأربعاء، (يوم صدور صحيفة "النداء") أربعة وعشرون يوما؛ حيث تصبح جملة الفترة الزمنية التي مضت منذ أن باشر القتلة جريمتهم البشعة سبعة وأربعين يوما، أي ما يساوي أكثر من شهر ونصف من الزمن. كل هذه الفترة وأجهزة الأمن التابعة لـ"حمران العيون" لم تقبض على القتلة الحقيقيين للدكتور القدسي. هذا الموقف الأمني المتراخي يوجه رسالة لأولياء دم الشهيد وأبناء منطقته وزملاء مهنته من الأطباء وجميع مواطني اليمن ممن لا يؤمنون بالأعراف الجاهلية، للقبيلة، مفادها أن دماءهم رخيصة ورخيصة جدا، طالما وهم لا ينتمون إلى المؤسسة القبلية الحاكمة.
كما أن إهمال أجهزة الدولة للقيام بواجباتها، ومنه عدم إلقاء القبض على قتلة أي مواطن، لاسيما إذا كان مقصودا، يترتب عليه عدد من الأهداف، وهي:
1 - السعي لإحياء العادات القبلية الجاهلية، كعادة الثأر، وهو ما أصبح شائعا في كثير من مناطق اليمن، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، بما فيها تلك المناطق التي كانت العادات الجاهلية كعادة الثأر قد اختفت فيها.
2 - فرض المهانة والشعور بالدونية على قطاعات كبيرة من المجتمع، وهو ما يؤدي إلى التمييز في المواطنة بين أبناء الوطن الواحد، بما يترتب عليه من مسؤولية أخلاقية وجنائية ضد أجهزة الدولة ومسؤوليها، لأنهم يصبحون شركاء في الجريمة.
3 - خلط الأوراق داخل المجتمع وإشاعة الفوضى التي لها أبعاد سياسية غير أخلاقية.
4 - تحقيق كل هذه الأهداف مجتمعة.
وفي كل الأحوال فإن تراخي المسؤولين في القبض على قاتل ومجرم صادر حق إنسان في الحياة وانتهك حرم مرفق يمارس مهنة إنسانية لها طابع القداسة، يعد مشاركة فعلية في الجريمة.
إن قضية الدكتور درهم القدسي، وبعد التراخي الأمني تجاه القتلة الحقيقيين، أصبحت قضية المجتمع المدني بأكمله، من أطباء وأساتذة جامعات وصحافيين وقضاة وكل من يؤمن بالحق والعدل والسلام داخل المجتمع وخارجه على النطاق الإقليمي والإنساني؛ ولذلك لا غرابة أن تتضامن منظما دولية كمنظمة "أطباء بلا حدود" الأمريكية مع قضية الدكتور درهم القدسي. هذا بالإضافة إلى أن القضاء اليمني إذا عجز عن ضبط الجناة وإحضارهم، فمن حق المتضررين أن يلجؤوا إلى القضاء الدولي، وهو الموقف الذي تبناه عدد من منظمات المجتمع المدني تضامنا مع أولياء دم القدسي وزملائه في المهنة.
الكثير من الأطباء اليمنيين وغيرهم ممن ينتمون إلى المجتمع المدني شعروا بأن مصيرهم يمكن أن يكون كمصير الدكتور درهم القدسي؛ لذلك فإنهم قد هبوا للتضامن والاعتصام والإضراب، بصورة لم يسبق لها مثيل، على الرغم من أن قطاع الأطباء يعاني من مظالم كثيرة وعلى رأسها كادرهم المالي، وهي بحاجة إلى وقفات جادة من جانبهم.
لقد ذكرتنا هذه الجريمة البشعة، نحن الذين ننتمي إلى المجتمع المدني، بقضية الدكتور حمرة، والذي ذبح في أحد شوارع تعز أمام المواطنين وبدم بارد، ولم يطبق شرع الله على القاتل، على حد علمي، حتى اليوم، لأنه ينتمي إلى المنطقة التي تؤمن بدين الطاغوت (الأعراف القبلية الجاهلية) والذي يرون أنه فوق الشريعة والقانون، وكذا قضية التاجر الذي ينحدر من حبيش وذبح في سوق الأدوات المستهلكة بمنطقة الصافية بأمانة العاصمة وأمام أطفاله... وغيرهما الكثير من الحالات التي هي كافية لإلحاق العار بهذه السلطة الفاسدة والمفسدة.
إن دم الدكتور درهم القدسي سيظل أمانة في أعناقنا نحن أعضاء المجتمع المدني حتى يتم إحضار القاتل إلى القضاء ويحكم القضاء عليه بحكم الشريعة الإسلامية التي يدعي ولاة أمورنا أنهم حماتها، وحتى تكون الشريعة فوق أعرافهم القبلية الجاهلية، وسنرى الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
ليس من الغرابة أن يتزامن اغتيال الدكتور القدسي مع إعلان إسرائيل الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة؛ فما يجري في الأوطان العربية هو محصلة لسياسات صهيونية متبعة منذ زمن بعيد، وهذا التزامن ذكرنا بموقف إسرائيل والأنظمة العربية المستنسخة من رحمها، حيث تقوم الفلسفة الصهيونية على قاعدة قتل شعب بأكمله من أجل توفير الأمن لحفنة من الخنازير الصهاينة "مسألة فيها نظر"، بينما إقلاق أمن حفنة من خنازيرها يعد "جريمة لا تغتفر" وهكذا نجد الأنظمة العربية تتماثل مع إسرائيل في التعامل مع شعوبها، وهو ما يجعل هذه الأنظمة موضع اهتمام المحافل الصهيونية الدولية، حيث تعد رعايتها مجالا خصبا للبقاء فوق رؤوسنا، ولو كنا غير راضين عن حكمها الذي لا ينتمي إلى الإسلام ولا إلى العصر... هذا فضلا عن أن بقاء هذه الأنظمة يوفر لإسرائيل الغطاء اللازم لشرعية البقاء في المنطقة واستمرار جرائمها التي لا تنتهي ضد الشعب الفلسطيني.