العرب وغياب التحاور

العرب وغياب التحاور - عبدالباري طاهر

تكاد القطيعة أن تكون سمة عامة ومشتركة حد التوحد بين جل الأنظمة العربية. القطيعة بين الحكم وشرائح وفئات واسعة من المجتمع. القطيعة بين الحكم والأحزاب السياسية المعارضة. القطيعة بين الحكم ومؤسسات المجتمع المدني، وبين الحكم والصحافة الحرة والمستقلة. ففي مصر التي قامت نهضتها، وحركتها الوطنية وثقافتها الوطنية منذ مطلع القرن الماضي وعلى أساس وحدة وادي النيل، ووحدة جناحي الأمة: المسلمين والمسيحيين، تتعرض وحدتها لصعوبات ومخاطر تصل حد الصداع المسلح بين الحين والآخر، ويشكو الأقباط من محاولات تهميش وإقصاء، وتصدر تصريحات سياسية لزعامات إسلامية، وفتاوى تنتقص من حقوق مواطنة الأقباط، وتقيد حرياتهم الدينية، وتحد من حقهم في بناء كنائسهم أو إصلاحها.
وتتعمق القطيعة الواصلة حد الصراع مع أحزاب المعارضة السياسية التي كانت قيادة الرأي العام على مدى عدة عقود في الثلاثينات والأربعينات. ولأول مرة يتصادم الحكم مع القضاء. ويحاول المس به والانتقاص من هيبته ومكانته واستقلاله. أما التضييق على الحريات الصحفية، فحدّث ولا حرج، فإضافة إلى الاختطاف والاعتقال والضّرب وكلها جديدة وغريبة على مصر تجري محاكمة الصحف الأهلية المستقلة: الدستور، والأمة، والبديل، ومن الصحفيين: إبراهيم عيسى، وعبدالحكيم قنديل، ووائل الابراشي، و حمدي جباحي وقد صدرت أحكام ابتدائية بحق الصحفيين: إبراهيم عيسى، ووائل الأبراشي، ومحمد السيد سعيد، وعادل حمودة.
أما السودان، فإن خطر القطيعة يصل حد التفكك وتصدع الكيان السوداني القائم على التنوع والتعدد، وتحاول الحكومة معالجة التصدع بالمسكنات والحلول الجزئية التي لا تضمن سلامة السودان ووحدته، ولم تتعاف الجزائر بعد من جراح الجزأرة ومآسيها.
والمغرب الذي كان الأنموذج للحريات الديمقراطية والصحفية والانفتاح على الحريات وحقوق الانسان، وفتح ملفات التعذيب والإخفاء في عهد الملك محمد الخامس، بدأ في التراجع، وقد تعرضت العديد من الصحف للإغلاق والمحاكمة.
وتجري حالياً محاكمة حسن الراشدي، ومراسل الجزيرة وهو صحفي مقتدر، وخبير إعلامي له مشاركة وأبحاث في عدة مجالات إعلامية وصحفية، وبالأخص في التغطية الإعلامية، والمفزع أن المحاكمة تجري حول «خبر صحيح أو كاذب». لا يمكن معالجته كذبه إن كان كاذباً بالمحاكمة، وبالطريقة التي شاهدناها، ويبدو أن القطيعة في المغرب هي الأقسى، لأن البلد قد وصل حد التداول السلمي للحكم عبر «التناوب». وتؤشر أحداث قفصة في تونس، وسيدي. في المغرب على بدء القطيعة لن أتحدث عن الأنظمة العربية التي يعتقد حكامها أن الشعوب مجرد صدى باهت لإرادة حكامها. أو أن الشعوب معطى من معطيات الحكم، وهبة إلهية للحاكم.
وتصل القطيعة مبلغ الكارثة في فلسطين؛ فالزعيم «أبو مازن» وهو منتخب، وحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، وهي أيضاً منتخبة انتخاباً حراً ومباشراً، في قطيعة تصل حد المواجهة المسلحة والانقلاب العسكري. لا يستطيع أبو مازن إلا أن يلتقي بالقيادة الإسرائيلية المحتلة، والمعلنة الحرب صباح مساء على شعبه ورغم أنه يدرك عدم التزام إسرائيل بأي اتفاق، وتوسعها في بناء المستوطنات وجدار الفصل العنصري والاستمرار في القتل والاغتيالات، الا أنه مرغم على تجرع سم المفاوضات الموهمة الكاذبة والخادعة. أما الالتقاء بحماس فله شروط قاسية جداً أهمها قبول إسرائيل والإدارة الامريكية، وحماس من جانبها تستطيع توقيع الهدنة مع اسرائيل والتحاور عبر الوسيط المصري، ولكن خلافاتها مع شقيقتها فتح هو الأصعب.
ويجد الشعب الفلسطيني نفسه في حالة قطيعة مع اخوانه العرب، ومع جواره المصري الذي يسهم في بناء جدار فصل مع غزة، العمق الاستراتيجي لمصر وبوابتها على المشرق العربي، ويمكن مصر أن تبيع غاز سيناء لإسرائيل الذي نهبته عدة سنوات بأسعار أقل من قيمته، ولا يسمح لها بتزويد الأخ الفلسطيني المحتل والمحارب والمحاصر.
وفي الأردن تبرز الصورة أجلى وأوضح؛ فالعلاقة بإسرائيل تحل محل التحاور الداخلي، وبقدر ما تكون العلاقة قوية ومتينة مع إسرائيل بقدر القطيعة مع الداخل ومع القوى السياسية الفاعلة والحية، وتفضل الدولة -شأن مصر -العلاقة مع إسرائيل على حساب «التطبيع» مع الشعب.
والصيغة في سوريا أكثر تعقيداً؛ فسوريا بلد المواجهة والممانعة الحقيقية، ولكن سوريا الممانعة يمكن لقيادتها أن تفرض الصمت المطبق على ضرب إسرائيل لمنشآتها، وأن تلتقي سراً و علانية في التحاور مع هذا العدو- وهذا حقها- ولكن النظام القومي الممانع لا يسمح للشعب الممانع حقاً من حق التعبير عن رأيه. أو «مناصرة» الحكم في التفاوض أو حتى معرفة ما يدور في تركيا أو فرنسا.
وتصل القطيعة حد الغرابة والعمل السريالي؛ فالحكم والحزب الحاكم يقاطع شعبه المؤيد له، ويضع نفسه كبديل عنه.
ويقبع العشرات وربما المئات، فيهم الصحفيون والمحامون والمدافعون عن حقوق الإنسان، في الزنازن والمعتقلات ولا يسمح لهم حتى بتأييد النظام في المواجهة الحقيقية والممانعة المطلوبة.
والقطيعة في بلدان حركات التحرر الوطني العربية تظهر من مظاهر فشل هذه الأنظمة في التحرير أولاً. ثم في الحرية والوحدة والاشتراكية، ومن ثم فشلها الأهم في البناء والتنمية؛ فهذه البلدان التي فشلت في امتحان الاندماج الوطني، وبناء مواطنة حقيقية، وتأمين لقمة الخبز، الكفاف، وحد أدنى من الحريات السياسية، واحترام حرية الرأي والتعبير، والقبول بالآخر- الشعب- كمختلف، وليس كمصدر للتشريع ومالك لكل السلطات، فالنظام القومي الذي حكم وأتى باسم الشعب قد ألغى الشعب كلية ووضع نفسه كحزب أو كجبهة أو كحكم عسكري، مكان المجتمع المدني كله، وتركزت الشرعية كل الشرعية في القوة كمصدر وحيد للحفاظ على السلطة.
ويمثل اليمن «المنهوب المنكوب» كعهدنا بتسمية الأحرار، الأنموذج الأكثر فجائعية وبؤسا؛ فهذا البلد الذي أدهش العالم بثورتين زاكيتين «26سبتمبر 62، 14 اكتوبر 63» وحقق وحدة طوعية وتوافقية في ال22 من مايو 90 قد انقلب حكمه 180 درجة على الشعب، وتحديداً مشاركة الجنوب والقبول مجرد القبول بمؤسسات المجتمع المدني، واحترام استقلالها ودعم مؤسساتها الناشئة.
حرب 94 كانت بمثابة إعلان القطيعة مع الحياة السياسية المدنية، واستبدالها بخيار الغلبة والحرب، والحرب لا تعني القطيعة مع الناس والسياسة فحسب، وإنما تعني القطيعة مع الحياة نفسها.
فمن رحم حرب 94 المشؤوم توالدت عشرات الحروب. أخطرها وأبشعها حرب صعدة، والاحتجاجات المستدامة في الجنوب.
أليس فاجعاً أن اليمن الذي يتطلع أهله إلى أن يكون الأنموذج للديمقراطيات الناشئة في العالم، قد أصبح بلد الحروب والفتن والثارات ووأد الحريات «الأنموذج الأزكى في الفساد والاستبداد والشرط البوليسية والدينية».
ويستطيع الحكم أن يكون داعية تصالح وحوار بين الفرقاء الفلسطينيين أو الصوماليين أو أرتيريا وأثيوبيا، ولكنه لا يستطيع تمثل هذه الحكمة العظيمة في خلافه مع أبناء شعبه سواء في صعدة أو الجنوب.
يعجز الحكم -أو لا يريد- أن يطبق حكم الله أو النظام والقانون والدستور اليمني الذي يعيد صياغته كلما حزبه أمر أو ربما لمجرد الرغبة- يعجز أن يطبق القانون في جرائم القتل العمد أو في نهب المال العام، وجرائم الإرهاب والاختطاف والحرية، ولكنه يعاقب بالسجن لعدة سنوات على انتقاد الفساد أو التنديد بالتوريث، أو التشكيك في سلامة الحرب في صعدة أو قمع احتجاجات الجنوب السلمية.
يعتقد الحكم، خاطئاً، أنه في حالة منازلة كبرى مع شعبه وأبناء وطنه، ويرى أن البطش وتجريد الحسام هو الفيصل في الخلاف السياسي.
يقبع العشرات وربما المئات في المعتقلات من ألوان الطيف المجتمعي والسياسي: حسن باعوم -عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، وعلي منصر -عضو مكتب سياسي أيضاً، ويحيى الشعيبي -محام وهيثم الغريب -محام وكاتب، وأحمد بن فريد -سياسي وكاتب، وأحمد القمع -صحفي، وعباس العسل -صحفي، وصبري بن مخاش- صحفي (حالته سيئة بسبب الاضراب عن الطعام) والفنان الشعبي فهد القرني، وهو يواجه محاكمتين في تعز وصنعاء في آن واحد، ويواجه الصحفي عبدالكريم الخيواني حكماً بالسجن لستة أعوام في حكم مدخول وبلا حيثيات أو تعليل، ومسبوق بإجراءا ت قامعة وأمنية.
حالات القطيعة التي تعيشها الأمة العربية من الماء إلى الماء، وفي مقدمة الصفوف اليمن تؤشر أن الأمة كلها بحاجة إلى إعادة التصالح مع نفسها أولاً، ومع جوارها وأخواتها العربية ثانياً.
الأزمة الشاملة الاقتصادية الاجتماعية السياسية الواصلة حد الحرب، لا يمكن أن تحسم بالاقتتال بقطع النظر عن الأسباب والمسببات، فالحرب في أكثر من قطر عربي والاحتقان المتوعد بالتفجير لا يمكن التغلب عليه إلا بالحوار والتشارك بين ألوان الطيف السياسي والمجتمعي.
في اليمن كما في السودان يستحيل الحفاظ على الوحدة بالاحتكام إلى السلاح، فالحرب وسفك الدم لن يؤدي إلا إلى المزيد والمزيد من توسيع دائرة العنف، والدم لا يجر إلا الدم، فلا محيص من التصالح والتشارك، والاعتراف أن اليمن كالسودان يستحيل أن يتفرد بحكمها حزب أوطائفة أو قبيلة أو عدة قبائل، بل لابد من مشاركة كل ألوان طيف البلاد اليمنية ومؤسساتها المدنية وأحزابها السياسية، وجهاتها الأربع.