في وداع كاتب أنيق

جاء تكريم الكاتب الكبير رجاء النقاش قبل وقت قليل من رحليه. أقيمت له فعالية كبيرة تداعى لها محبوه من كل مكان بالحضور أو عبر رسائل تحايا وحب بعثوا بها إليه.
وهذا لأن الرجل لم يكن رقماً عادياً أو عابراً هامشياً في طريق الحياة. لقد مثّل رجاء النقاش نموذجاً للمثقف الانساني المنحاز دائماً لخياراته الذاتية نائياً بنفسه عن أي تأطير أو تنميط سلطوي كاذب ومخادع، ولهذا لا عجب أن يكون حاصلاً على كل ذلك الاجماع النقدي على فرادته وتميزه وحضوره.
اشتهر رجاء النقاش في حياته بمهنيته الصحفية والنقدية. عمل بداية في مجلة روز اليوسف ثم ترأس هيئة تحرير مجلة الهلال فرئيساً لتحرير مجلة الاذاعة والتلفزيون، بعدها سافر إلى دولة قطر ليعمل مديراً لتحرير صحيفة الراية وتالياً تسلم رئاسة تحرير مجلة الدوحة واستمر فيها حتى إغلاقها عام 1986 ليعود كاتباً في مجلة المصور التي تركها ليتولى رئاسة تحرير مجلة المصور. واكمل النقاش حياته الصحفية كاتباً متفرغاً في جريدة الاهرام. أما رجاء النقاس الناقد فقد أنتج «ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء وأبو القاسم الشابي شاعر الحب والثورة وعباقرة ومجانين وعباس العقاد بين اليمين واليسار». كما قدم النقاش عدداً كبيراً من الاسماء الأدبية الهامة على رأسها الطيب صالح مكتشفاً روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» وتقديمه لديوان «مدينة بلا قلب» الهام لأحمد عبدالمعطي حجازي.
في هذه المساحة تقدم «شاشة النداء» رسالة كتبها الشاعر عبدالعزيز المقالح وخص بها «النداء» تحية لصديقه رجاء النقاش, وهي الرسالة التي ألقيت في الاحتفالية التكريمية التي أقامتها نقابة الصحفيين المصريين ومؤسسة الهلال بالاشتراك مع حزب التجمع وصحيفة الآهالي ومجلة أدب ونقد قبل أيام قليلة من رحيله يوم الجمعة الفائت. كما نعيد نشر مقالة للشاعر عباس بيضون عن الراحل الكبير.
> جمال جبران
jimy

***
تحية
الصديق الأعز الأستاذ رجاء النقَّاش  حفظه الله
تحية طيبة وتهنئة من القلب بالعام الجديد، وبعد:
لعلني أجد في هذه اللحظة السعيدة، لحظة الاحتفاء بك من صفوة كريمة من مثقفي شباب مصر وكهولها، فرصة لكي أجدد معك عهد الصداقة الحميمة، وأقول لك بكل ما في الكلمات الطالعة من القلب من حب وبساطة وصدق أننا نحن تلاميذك ومريديك خارج البيت العربي الكبير (مصر) نتتبعك ونقرؤك كاتباً وناقداً ومفكراً تنويرياً ليس من وقت قريب وإنما منذ أوائل ستينيات القرن المنصرم، ومنذ طلعت نجماً متألقاً في عالم الكتابة المسئولة، يفيض قلمك بالود والمعرفة والألفة والإخلاص للحق وللحرية بكل معانيها السياسية والاجتماعية والفكرية.
لقد أحببناك عن بعد وأحببناك من قرب، قرأناك كاتباً وسمعناك متحدثاً ومحاوراً، وفي كل مرة كان حبنا لك يزيد وإعجابنا بك يتنامى لأنك منذ البداية، وحتى الآن، لم تبدل مواقفك الجادة الرصينة بل تسير على صراط مستقيم لا اعوجاج فيه ولا التواء، حب مصر والعروبة هدفك ورعاية الإبداع والمبدعين غايتك. ومن استقامة خطواتك على الدرب الطويل الذي لم يكن سالكاً دائماً بل كان في أغلب الحالات مفروشاً بالشوك لا الورد.
ونحن في هذه المناسبة، وفي كل مناسبة لا نعترف بل نؤكد دور مصر العربية الحديثة من خلال الجهود العظيمة لأعلامها وكبار كتابها ونقادها، لكننا في الوقت نفسه نعترف ونؤكد أنك كنت في طليعة ندرة من المثقفين تتميز بالشخصية المختلفة الفريدة في سلوكها الرفيع وفي عطائها المثمر، وفي رفضها الاقتراب من المناطق الموبؤة حيث يكثر ذباب النميمة الأدبية وذئاب الشتائم وأنصار اللغة الجارحة للقلب. وهكذا صرنا –نحن تلاميذك ومريديك من خارج البيت العربي الكبير- نؤمن بأن سلوكك ونقدك الأدبي العميق المهذب والحاني والذي يدعو القارئ بحميمة وإخلاص إلى أن يتعرف على نتاج المبدعين بروح صافية وإلى أن يقترب منهم وفي يده وردة لا حجر، وفي فمه قبله لا رصاصة. ولأن ذلك كان نهجك فقد نجحت بامتياز وبقيت مواقفك وكلماتك النقية نموذجاً، في حين انطفأت أسماء كثيرة وكتابات أكثر، ولا أغالي إذا ما قلت أنك – يا رجاء- كنت تكتب براءة العصر الذي امتلأ زيفاً وادعاءً.
ولن أنسى في مناسبة الاحتفاء بك أن أذكر أنك كنت بوابتنا للتعرف على شعر الأرض المحتلة في ما كتبت عن محمود درويش وأول من قدم لنا روائياً مبدعاً بقامة الطيب صالح، وسأظل أتذكر أن كتابتك عن الشابي شهادة للتاريخ على شاعريته وعلى قيم الحب والثورة في شعره، ولا ولن ننسى جميعاً المعارك التي خضتها بالنيابة عنا من أجل الثقافة العربية بوجه الدعوات الإقليمية والمحلية تلك التي سعت إلى تفتيت المشروع الثقافي العربي الواحد، واستجابت للدعاية الإمبريالية، ورضيت لنفسها أن تكون صدى لها، فكشفت الوجه الحقيقي للمنظمات والمنابر المشبوهة التي أريد لها أن تُغْرس في تربة ثقافتنا ومجتمعاتنا، وفي وقت مبكر ومنذ بدء نشاطها المشبوه أظهرت حقيقتها بالحجة الثقافية غير المنطلقة من أفق حزبي أو تعصب ضيق.
أخيراً، وليس آخراً، فإن إنصافك رغم أنه تأخر كثيراً يجعلنا على ثقة بأن الأجيال الآتية ستقرأ ما كتبت بالصدق والعمق الذين كتبتهما طوال مسيرة حياتك في الثقافة والأدب والفكر والفن، وسيكون لك بين الخالدين الذين كان لك فضل التعريف ببعضهم مكان لا تخطئه ذاكرة التاريخ ولا ينساه ضمير أمتك.
لك خالص تحياتي، ودمت لنا وللكلمة ولأمتك،،،
أخوك/
د. عبدالعزيز المقالح
صنعاء في 7/1/2008م
 
ليلة في بيت رجاء النقاش
عباس بيضون 
 لا اتذكر كثيراً، لكن رجاء النقاش لا يحتاج الى ذكريات كثيرة ليحضر في البال «كان واحداً من لقاءات قليلة لكني اتذكر بيتاً جميلاً» وليست وفيرة جداً بيوت الكتّاب المصريين التي توحي بالرخاء. صالة أنيقة ورجاء الوسيم مع زوجته وابنته الجميلتين وصهره النبيه والوسيم ايضاً، حلمي التوتي الرسام المعروف أنيقا ومرحاً واكثر استرسالاً من لوحاته. سليم سحاب بهيئة المايسترو التي له لكن بتبسط وبدون طاووسية. مائدة كريمة ومرح ولطف، ليلة سعيدة في بيت سعيد، فيما بعد علمت ان الصهر اللامع اصيب بالسرطان وتوفي شاباً. علمت ان رجاء في مرض عضال، مع ذلك لم تنكسف هذه الليلة في ذاكرتي، ولن اشتبه ابدا بالسعادة التي صادفتها فيها. سيبقى كل هذا الجمال والمرح حاضراً وسيبقى رجاء وسيماً ورقيقاً، لن نسلم للموت كل شيء.
اول ما تعرفت به على رجاء النقاش كان مقدمته الطويلة لديوان احمد عبد المعطي حجازي الاول وربما الاجمل «مدينة بلا قلب» لا اذكر من هذه المقدمة الا انها كانت مليئة بالسياسة ولم يكن الديوان كذلك، فالواضح ان رجاء ذلك الحين لم يكن ليتصور شيئا بدون سياسة، ثم ان المقدمة نفسها كانت مضمومة الى الديوان كأنها شيء منه او كأنها تكمل البيان الذي فيه، ديوان حجازي هذا قال الشعر على نحو لم يكن مسبوقاً، قاله بجملة لا تهول ولا تفخم ولا تذهب الى الاقصى ولا تنشد، الارجح ان رجاء لاحظ جدة الشعر وطراوته لكنه شاء ان يضع ذلك في رصيد سياسة جديدة ايضا. ذلك الحين كان رجاء شيطان حجازي ويجمعهما قرب غريب من حزب لم ينغرس في مصر ولا كان له أرض فيها هو حزب البعث، ديوان حجازي كان اشهارا مركبا لتلك الصداقة ولذلك الاتجاه، بعدها غدا رجاء النقاش من طلائع الناصرية ولعب في الصحافة والنقد دوراً لم ينفصل كثيراً عن السلطة. لم ينتكس رجاء في عهد السادات، لقد واصل طريقا يصعب على من اختطه ان يحيد عنه، في هذا الازدواج بين السلطة والثقافة او في هذه السلطة الثقافية التي كانت تتحول بتحولات الظرف، كان رجاء من هذه الطبقة من مديري الثقافة او امراء الصحافة، وفي بلد مؤمم الصحافة والثقافة يصعب الابتعاد عن السلطة لكنها لا تدمغ الجميع بذات السمة، فقد كان رجاء محبوباً لانه في لطفه ودماثته تجاوز اسوار الموقع وبرودته وقساوته، لقد خالفه كثيرون في سياسته ولا بد من انهم قالوا فيها ما يدين وما لا يدين، لكن شيئا يتجاوز السياسة ويتجاوز الموقع كان يجعل في رجاء النقاش على الدوام شيئا من المثالي المتحمس الذي بدأ به شبابه.
أيا كانت مسالك رجاء النقاش فإن زهوته ومدار حضوره كانا في الناصرية، كان هنا مبدأه وتربيته وأفق حياته، تكون حول عبد الناصر جيل من مثقفي مصر الشبان آنذاك. إذا كانت الناصرية قد باتت اليوم بعيدة وفي التاريخ، فإنها حاضرة في تكوين هذا الجيل ولا تزال لدى أفراده الذين غدوا كهولاً او شيوخاً، المرجع الروحي، ولا يزال سجالهم الاساسي معها، تاريخ هؤلاء مع الناصرية وبقاؤها فيهم وسجالهم في ما بعد معها وحضورها السري في نتاجهم او معركتهم ومن اجلها احيانا، وتنقيحهم او تبريرهم لها في ما بعد. كل هذا هو المجال الذي بقيت فيه الناصرية اكثر ما بقيت. المباركية، اذا جاز التعبير، بعيدة عن الناصرية وزخمها، لكن نتاجات ناصريي مصر الاوائل لا تزال تتتابع في الرواية وفي الأدب وفي السياسة، ولا نزال نشعر بأن السيرة الناصرية لكل هؤلاء لا تزال محركاً اساسياً.
بوفاة رجاء النقاش نفهم ان هذا الجيل يرحل، ومع رحيل آخره ستكون خاتمة سفرائنا الى الغيبة الناصرية الصغرى وسندخل في غيبة أكبر وقد تكون بلا نهاية.
* نقلاً عن "السفير" بأذن خاص من الكاتب