التشبث بالاحتكار الكامل للسلطة باعتباره خطاً أحمر، وتسويقه تحت عنوان الدفاع عن الوحدة.. المكابرة التي تقود اليمن إلى الفوضى

التشبث بالاحتكار الكامل للسلطة باعتباره خطاً أحمر، وتسويقه تحت عنوان الدفاع عن الوحدة.. المكابرة التي تقود اليمن إلى الفوضى - مصطفى راجح

- لا بد من التمييز بين من يتحركون على أرضية الجنوب كلاصق وهوية جزئية للدفاع عن حقوقهم في المواطنة والمشاركة، وبين المتحمسين ليوتوبيا الانفصال.
- ثلاث مآلات محتملة لأكبر حركة احتجاجات ديمقراطية سلمية في البلدان العربية كلها «جنوب اليمن»:
1 - استعادة شراكة الجنوب، وفرص المشاركة لكل الأطراف المعنية في اليمن.
2 - نجاح السلطة في إخماد معارضيها لعشر سنوات قادمة.
3 - فقدان السيطرة من قبل جميع الأطراف، والانزلاق نحو الفوضى.
لم تستوعب السلطة إمكانية تنامي حركة احتجاجية واسعة النطاق في الجنوب، كالتي تملأ الساحة الجنوبية الآن، واليمنية عموماً، كاهتمام وتضامن.
يرجع الرئيس الوضع الى جذر صغير وغير واقعي: «مجموعة صغيرة فقدوا مصالحهم، فكان ما حدث». طيب والناس، الجماهير التي تخرج بالآلاف. وعشرات الآلاف. بدورها تنهمك الاجهزة في إعداد القوائم، بدلاً من 16، في 94، خرجت الى العلن التسريبات «لم تنف» عن قائمة ال38 ناشطاً، التي نشرتها «الشارع» الاسبوع الفائت. انطوت هذه القائمة الحمقاء على خمسة شعراء بتهمة التحريض، وعضوين في مجلس النواب، ولهم بعد ذلك وجوه تطل علينا من الشاشات والصحف لتعظ عن الديمقراطية والنضال السلمي، بينما يعدون قول الشعر عملاً تخريبياً يستحق صاحبه الاستهداف والاعتقال. الأهم من هذا وذاك أن مثل هكذا قضية لم يعد ممكناً التعامل معها بأسلوب القوائم، وأساليب القمع المتقادمة. بإمكان السلطة أن تتأكد من ذلك، ولديها فرصة مواتية في الثلاثين من نوفمبر القادم.
دعت الفعاليات المحركة للساحة الجنوبية، ممثلة بملتقيات التصالح والتسامح، وجمعيات المتقاعدين، وفروع الاحزاب المعارضة، والمنظمات، دعت المواطنين في المحافظات الجنوبية إلى المشاركة في احتفال كبير تنضمه بمناسبة ذكرى استقلال جنوب اليمن من الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 67. وإذا ما أرادت السلطات الوقوف على حقيقة الوضع كما هي، فما كان عليها سوى إفساح المجال لهذه الفعالية، والكف عن الاجراءت الاستثنائية المتوقع أن تواجه بها هكذا فعالية كبيرة، كإقامة المتاريس داخل عدن وفصل مناطقها عن بعضها ومنع المشاركين في بقية المحافظات من الدخول الى عدن. لتكف السلطات عن هذه الاجراءات، وترى، من سيشارك في هذه الفعالية؟ هل هم قلة فقدوا مصالحهم، أم عشرات الآلاف من المواطنين اليمنيين في الجنوب؟!
هل هم قائمة ال38 ناشطاً، أم ظاهرة جماهيرية تسحب من السلطة ميزة القدرة على تحريك الجماهير بوسائل وإمكانيات الدولة!؟ إذا كان الوضع كذلك فلا مجال إلا للنظر في القضية كمشكلة وليس كأزمة.
النظر إلى القضية الجنوبية كقضية حقيقية، وليس مؤامرة لا تتطلب أكثر من حلول جزئية ترقيعية مرفوقة بتوزيع الهبات والسيارات من جهة، واجراءت قمعية بالية من جهة أخرى.
مشكلة العقلية التي تحكم البلد الآن هي المكابرة. ترفض الاعتراف لا بالقضية الجنوبية فقط، بل بأي قضية يمكن أن تقدم كتلة جماهيرية كمواطنين لهم حقوقهم، وتقدم قوى سياسية واجتماعية كشركاء في إدارة البلد، وليس كتابعين.
مثل هكذا عقلية جبلت على المكابرة ترى في أي اعتراف بهذه القضية ضعفاً، وإقراراً بمشروع للإنفصال يهدد الوحدة اليمنية.
سلطة لا تقبل بأي تنازلات
إن الانفصال ليس مشكلة ممكنة الحدوث، وهذا لا يعود فقط لتجذر الانتماء الوطني، بل أهم منه: الى أن الانفصال غير واقعي وغير ممكن، ولا يؤدي الى حلول بل إلى حروب. غير أن السلطة الفاشلة تفضل أن تصيغ العنوان وفق برنامجها الذي تعودت عليه:
لا توجد مشكلة ناتجة عن إقصاء الجنوب من الشراكة في إدارة البلد، بل مشروع للإنفصال، وتذهب لتحشد الناس وتسوق تمسكها بالسلطة والادارة الخاطئة للبلد باعتباره دفاعاً عن الوحدة، بل وشرطاً لبقائها.
لا مجال أمام هذه التركيبة الحاكمة الممسكة بزمام اليمن الآن لأي مراجعات لأخطائها الفادحة، وطرق ادارتها المتخلفة للبلد.
اكثر من ذلك تعتبر مثل هكذا مراجعات خطاً أحمر لا يمكن المساس به. لا مجال لإعادة التركيبة الوطنية للجيش. لا مجال للحوار مع القوى السياسية والجنوبية لصياغة دستور جديد يستوعب جميع الاطراف المعنية كشركاء في البلد وادارته وسلطته وثروته. لا مجال لتغيير الاساليب القديمة. لا مجال حتى لتعيين محافظين من كافة الأطراف المعنية ويحظون برضى الناس.
الخلاصة عند هذه السلطة أنها حسمت الصراع التاريخي على السلطة في اليمن بصورة نهائية، في حرب94. وصلت الى نهاية التاريخ اليمني ولم تكن تتوقع ولا تستوعب الان أن لحظة كهذه يمكن تأتي. لحظة توضع امامها حقيقة جديدة: لقد استنزفتم، نصركم. خلاص كملتموه. لا استحقاقات جديدة لكم على هذا البلد ومواطنيه.
حانت الان لحظة المراجعة لاستحقاقات نصركم التي أسس عليها النظام وتوزعت المصالح بين اطرافه علىاساسها. البلد تحتاج الآن الى صياغة جديدة للمصالح وإدارة السلطة، وتوزيع الثروة، وإشراك جميع الاطراف.
كل ما يحدث في اليمن الآن وطوال السنوات الثلاث الفائته يؤشر إلى ضرورة هكذا مراجعة، وإلى عدم إمكانية ترحيلها اكثر من ذلك.
وامام كل هذه المؤشرات تكابر السلطة في قيادة اليمن نحو الفوضى، حيث يتم تسويق كل هذه المكابرة، والعناد، ورفض متطلبات المراجعة، بعناوين براقة: الوحدة خط أحمر.
وكأن كل مطالبه بالحقوق، وتطلع للمشاركة في إدارة البلد من أبنائه واصحاب الحق فيه، يفسر ويؤل باعتباره تآمراً واستهدافاً للوحدة والوطن. والسلطة بمثل هكذا مكابرة لا تستجيب للأولويات القائمة الآن لا الاولويات الشعبية والجماهيرية، ولا حتى اولويات استمراريتها.
وكل ما تؤدي اليه بمكابرتها هو ترفيع قلة ضئيلة لا تتجاوز 5٪_ من حجم ومساحة حركة الاحتجاجات الوطنية في الجنوب، لتبرزها وكأنها 95٪_ من الحركة الاحتجاجية.. متوهمة أنها تجد ضالتها في كيس ملاكمة تتدرب فوقه باسم معركة قادمة للدفاع عن الوحدة.
مآلات ثلاثة
هناك مآلات ثلاثة يمكن أن تفضي إليها أكبر حركة إحتجاج سلمي ديمقراطي تشهدها اليمن، والبلدان العربية كافة، والمتمثلة بالاحتجاجات السلمية المستمرة منذ بداية 2006 في الجنوب. أولى هذه الاحتمالات أن تؤدي هذه الحركة السلمية وبعد نضال مستمر لعامين أوثلاثة إلى استعادة شراكة الجنوب، في دولة الوحدة، وهو ما يفتح الباب واسعاً لآفاق دولة تمثل كل مواطنيها في جميع المناطق والجهات والقبائل، لأن الجنوب الآن يبرز باعتباره بوابة الاصلاح الوطني الشامل. وهذا المآل مرهون باندماج الاحزاب السياسية والفعاليات المدنية والمنظمات الجماهيرية في عموم الساحة اليمنية في هذه الاحتجاجات السلمية، والتضامن الكامل مع احتجاجات الجنوب.
 المآل الثاني المحتمل: هو أن تنجح السلطة في إخماد هذه الاحتجاجات، وتتبخر هذه الحركة السلمية الى هذه الصيغة: احتقانات استمرت ثلاثة عشرعاماً، فرجت عن نفسها بالاعتصامات والهتافات ولم تؤد إلى شيء.
هذا المآل ومع أنه سيكون إخماداً مؤقتاً إلا أنه ممكن. وإمكانيته ليست مرهونة فقط بأساليب السلطة القديمة في الادارة، وتوزيع الاموال، والحلول الجزئية الترقيعية. بل إنه مرهون إلى حد كبير بمدى قدرة أصحاب الأصوات الانفصالية على الارتفاع ومدى انتشار أطروحاتهم، وسيادتها على مسار الاحتجاجات في الجنوب وتكويناتهم المتمثلة في المنظمات والفعاليات الاجتماعية والسياسية المتعددة لأن هؤلاء قادرون على وضع حركة الاحتجاجات في الجنوب في زاوية خيارات ضيقة وتدميرية اكثر من قدرة السلطة نفسها على محاصرة هذه الاحتجاجات وإفراغها من مكامن قوتها.
والمآل الثالث: هوفقدان جميع الأطراف قدرتها على التأثير في مسار الأوضاع، واتجاه الوضع برمته نحو الفوضى اولاً، ولاحقاً احتمالات التشظي والحروب الأهلية.
هذا الاحتمال ضعيف الآن، مع أنه غير مستبعد -إلى حدما- خصوصاً اذا تنامى خيار الانفصال، واصبح هو المحدد الوحيد لكل فعاليات الجنوب. ويبقى هذا المآل الضعيف مستبعداً حتى في ظل هذه التوقعات مالم يتحقق شرط لا غنى عنه لهذا التوجه التدميري وهو وجود مستجدات تطرأ على الساحتين المحلية والأقليمية، تمده بقوة دفع لازمة. تخيلوا مثلاً إنتشار أطروحات إنفصالية في الجنوب اليمني، مع عودة حرب صعدة، وارتفاع توترات صراعات المصالح داخل مراكز القوى في النظام، واستناداته القبلية إلى حد اللعب على كل الأوراق، واندلاع مواجهة عسكرية عنيفة بين امريكا وايران واتجاه الوضع في لبنان باتجاه الحرب الأهلية وسيادة مناخ ملائم للمجموعات الارهابية على مستوى المنطقة.

 ما بين الجنوب كلاصق وهوية جزئية والمتحمسون ليوتوبيا الانفصال
سيكون ظلماً كبيراً وإساءة لا يمكن احتمالها لو أننا تحدثنا عن الجنوبيين الشجعان الذين خرجوا للدفاع عن حقوقهم ومطالبهم بالمشاركة السياسية، كدعاة للإنفصال. غير أن هناك اصواتاً بعضها يدفعها الحماس ونفاذ الصبر، وأخرى تستند إلى إرث سابق ل67، ترى في الجنوب كياناً وتاريخاً لا علاقة له باليمن. هؤلاء قلة ولا مستقبل لهم. غير أننا ينبغي أن نفرق بين هؤلاء، وبين التيار الأكثر اتساعاً في حركة الاحتجاجات والذي يتحرك على أرضية الجنوب كهوية جزئية ولاصق لم يكن بالإمكان لهذه الاحتجاجات التماسك بدونه.
وهذه هوية جزئية ضمن الهوية الجمعية لليمن الواحد. مثلها مثل الهويات الجزئية في حضرموت، وتعز، وتهامة والمنطقة القبلية ما فوق سماره. وهذا التنوع ليس مدعاة للهلع ولا لنسج التصورات المؤامراتية. من الطبيعي أن يكون هناك شعور بالانتماء لمتحد سياسي وجغرافي استمر لثلاثين عاماً كدولة، ولأكثر منها كخاضع للاستعمار، وهو لم يكن ليبرز بهذه الصيغة كمشكلة لولا غياب الدولة التي تمثل كل مواطنيها. لولا تجسد هذه الدولة أمام الجنوبيين وعموم اليمنيين كمشروع لأسرة وقبيلة أكثر منها دولة وطنية.
ومع كل هذا ينبغي أن لا نخلط بين من يلتفت يميناً ويساراً فلا يجد ما يعزز تماسكه سوى جنوبيته، وبين من يدفعون باتجاه الانفصال كخيار وحيد، سواء بوعي أو بدون وعي.
هذه المجموعة الاخيرة أقلية، ولا شعبية لهم، وما يتبدى من ارتفاع أصواتهم يعود فقط إلى تحركهم على أرضية ممتلئة بمشاعر الغبن والمظالم، والإقصاء.
يقولون إن الوحدة تحققت تحت فورة الحماس والعاطفة، وينسجون على نفس المنوال: يريدون بالحماس والعاطفة أن ينضجوا فكرة الخروج منها، متناسين أن تلافي حماس 90 الذي لم يتنبه لترتيب تفاصيل الوحدة ومصالح أطرافها، يمكن تجاوزه بما ولده من مشروع وطني كبير، ويمكن تلافيه ايضاً بالنضال السلمي الديمقراطي المثابر حتى إستعادة شراكة الجنوب، وفرض شراكة كل الشعب وفئاته ومناطقه وجهاته، في إدارة الدولة، وتوازن المصالح بين جميع مكونات الشعب.
غير أن حماس الخروج من الوحدة لا يمكن غفرانه، ولا تلافيه، ولا يولد سوى مآلين: إما إجهاض حركة الاحتجاج والنضال السلمي في الجنوب، وممكنات التغيير في كل اليمن، ومساعدة السلطة على إخماد هذه الاحتجاجات في الجنوب. أو في أقصى نجاحاته يولد الفوضى ومتوالية حروب أهلية لا تنتهي.
وهؤلاء المتحمسون الآن ينبغي أن يدركوا أن جنوب السودان المتمايز عن شماله لغةً وديناً، وعرقاً والمدعوم من كنائس الغرب ودوله لم يتمكن من الانفصال بعد ثلاثة عقود من الحرب الأهلية. بل إن ممثليه السياسيين اختاروا خوض الصراع في إطار السودان نفسه أياً كانت خياراتهم على هذه الأرضية وهم الآن جزء من صيغة توافقت عليها جميع الأطراف. ولديهم رباطة جأش وبعد نظر مما يمكنهم من الاحتجاج والرفض لأي التفاف من شركائهم من داخل هذه الصيغة نفسها دون القفز إلى المجهول.