غنائية عفوية وتحيز سياسي 1 - 2.. قراءة في «حب ليس إلا»

غنائية عفوية وتحيز سياسي 1 - 2 .. قراءة في «حب ليس إلا» - محمد ناجي أحمد

ابتداء من العتبة الأولى التي تستقبلك به هذه الرواية من خلال لوحة الغلاف الذي يتصدره قلب أخضر يأخذ حيزاً كبيراً من الغلاف وتلك الخضرة التي تمتد منه إلى الأرضية وتحيط بالمنزل، ثم مروراً إلى العتبة الثانية وهي مقولة لغارسيا ماركيز والتي تدور حول الحب وجراحه والحياة المستمرة: «ياللحزن! الحياة لا تنتظر العشاق حتى ينزعوا جروحهم ويلحقوا بها، إنها تتركهم مجانين بالحب!..». ثم العتبة الثالثة والتي تهديها «لعطائها الذي لا يفوقه إلا حبي لها ل... أروى يحيى الكوكباني». في هذه العتبات الثلاث نجد الحب هو الدلالة الأساسية لها. يقدم العنوان دلالة الحب باعتباره مطلباً بسيطاً «حب ليس إلا»، لكنه يرادف في بساطته مطلب الحياة، إلى عتبة الإهداء لـ«أروى يحيى الكوكباني» والذي تأتي فيه مفردة الحب كمتجاوز لمفردة العطاء، إلى عبارة غارسيا ماركيز والتي تجمع بين جروح القلب المجنون بالحب ثم حركة الحياة التي لا تنتظر العشاق وإنما تتركهم مجانين بالحب.
الكتابة بوح وشفافية يتم طيها في مفكرة زرقاء. واللون الازرق يتناسب مع الرغبة في إخفاء هذا البوح، ثم يكون دسها «تحت كوم ملابسي الداخلية». تتعامل «فرح» مع مفكرتها الزرقاء بطريقة تشخيصية وكأنها صديقتها أثناء سرد «فرح» للأحداث تبرز الثقافة المدرسية في وصف ما قبل الثورة من تخلف وعدم وجود رعاية صحية ثم همجية الملكيين الذين قتلوا عمها «إبان قيام الثورة من أنصار الحكم الامامي السابق والذين كان يطلق عليهم «الملكيين» وأصطياد رصاصهم لكل الآمنين دون تدقيق في ميولهم الثورية من عدمها في تلك الفترة»ص8.
ينتمي الأب من حيث موقفه السياسي إلى ثورة 26 سبتمبر، ونعمها المتجسدة. ابنتاه: فرح، وسلى ونتيجة تقاربهما في العمر فهما قريبتان من بعضهما عاطفياً، وتأتي تسميتها من كلمات الزامل الثوري «يافرح يا«سلى» طل يوم أصيل، فجر أيلول عاد، بالنسيم العليل» ص9.
تستمر الثقافة السبتمبرية كـ«موقف» وهي تصف قصر الحجر معرجة على الحديث عن الإمام الذي كان يقضي فيه وأسرته فترة الخريف قبل قيام ثورة 26 سبتمبر مستمتعين بطول أغصان قاتها، ولذة فاكهة سفرجلها إضافة الى تمتعهم بخير بعض المناطق المحيطة بصنعاء مثل عنب «الروضة» وبرقوق «حدة» فالحديث عن الإمام في هذه الرواية يشكل نتوءاً بارزاً خاصة وأن موضوع هذه الرواية هو «الحب» وقد أسهبت «فرح» في التعبير عن عواطفها تجاه هشام بغنائية مفرطة ووسط هذه العواطف المنابة يبرز الموقف السياسي بشكل منازع لذلك الحب المنساب بغنائية بسيطة ومتماثلة.
تستثمر هذه الرواية قدراً من الثقافة الشعبية سواء طقوس الزواج او الامثال الشعبية لمواجهة الشدائد والصبر أو الايمان بالحروز «القحيطة» وهنا تأتي «فرح» كصورة مماثلة لأمها في الاعتقاد بالثقافة الشعبية رغم أنها تدرس فلسفة بل وتحضر رسالة الدكتوراه في جذور الفلسفة الاغريقية.
تصف «فرح» اثناء حديثها عن قصة الحب التي بدأت بينها وبين هشام طبيعة المجتمع اليمني المحافظ والذي تتزوج فيه الفتاه دون النظر إليها. وهي في سردها لهذه الثقافة والعادات المحافظة لاتستخدم لغة أنثوية كموقف وكرؤية مختلفة عن ثقافة وعادات وتقاليد المجتمع الذكوري، إنها بكل عفوية وبساطة ترى أن من حقها أن تعيش قصة حب وأن تتخذ قراراتها التي تساعدها على وجودها سواء في الالتحاق الجامعي أو الدراسات العليا أو أن تحب وتقابل حبيبها في منزله وتبادله النظرات وملامسة الايدي وارتشاف قبلة وحيدة، قبل أن يختفي من صنعاء عائداً إلى عدن ثم اللقاء مرة أخرى أثناء مناقشة رسالة الدكتوراه- ومع ذلك فإننا لا نجد في موقف ورؤية «فرح» ثقافة أنثوية متمردة بل إنها تحاول أن تثبت ذاتها وأن لا تصدم بأبويها وبالمجتمع، تحاول أن توفق بين الامرين وترفض أن تكون متمردة فهي غير قادرة على أن تكون في مواجهة إملاءات المجتمع.
إن هذه الرواية عبرت بشكل غنائي وذكوري عن عواطف «فرح» تجاه الدكتور هشام وبإطناب باستخدام عبارات الوله والعشق والتوحد مع المحبوب، ولكننا لا نجد لـ«هشام» سوى بضع عبارات يعبر بها عن حبه لها ويستهلك معظم رسائله في وصف ما حدث في 1986 في عدن من بشاعة وقتل، يأخذ الوصف لهذه الاحداث صفحات عديدة تجعل القارئ في حالة ذهول، اذ كيف تحفظ «فرح» هذه الرسائل عن ظهر قلب والحديث عن الحب لا يشكل سوى النزر اليسير منها. لقد كان «هشام» شديد الحرص في تعامله مع فرح، كان فحلاً يجيد استثارتها بالقليل من الكلمات والنظرات «كان شديد الحرص في تعامله معي: يعتذر اذا ماأطال ملامسة يدي نشوة لا سبيل إلى وصفها اثناء حديثنا»ص49،. وهذه صفات ذكورية عابثة فهشام صاحب العمر والخبرة الجنسية في التعامل مع فتاه جامعية قادر على تأجيج عواطفها تجاهه وفي نفس الوقت يستطيع أن يكون حذراً وحريصاً!؟ إنها تصف حبها بقدر واضح من الوله به والتعرف على جزئيات حياته وإن ظلت جزئية زواجه وأولاده مخفية عنها، لقد أراد أن يستوعب هذه الطالبة كثيرة للأسئلة والقراءة داخل قاعة المحاضرات فحولها إلى عاشقة تتبع خطاه بقدر من التلميحات واللمسات: «عرفت هشام بشكل جيد، صفات رجل يكبرني باثني عشر عاماً، تمنيته ليحتويني، غصت في اعماقه، حفظت تاريخ ميلاده، وعرفت شذرات كثيرة عن حياته، دراسته في المرحلة الثانوية في عدن، تحديداً بيته في قسم الف في منطقة الشيخ عثمان، هروبه من عدن في منتصف السبعينات، بعد فشله في الحصول على منحة دراسية رغم مجموعه العالي ثم سفره إلى المانيا...» كثيرة هي التفاصيل التي تعرفها «فرح» عن هشام الذي تتماهى به بوله، فهو ناضج يكبرها باثني عشر عاماً. أمامنا أنثى مغرمة بالنضوج الذكوري لهشام وترغب في أن يحتويها ولقد كان لديه القدرة في أن يحتويها ويمتلكها تلك النافرة والجامحة في قاعة المحاضرات، فعمل على ترويضها ومن ثم اقتيادها!!
نستطرد في وصف عناق الوداع والقبلة الوحيدة، أنها أنوثة عفوية تصف مشاعرها دون أن تلتفت إلى مشاعر هشام، الذي كان قد وعدها بالزواج وإذا به يرحل دون أن تعلم بأن هذه القبلة هي قبلة الوداع تستطرد «فرح» بشكل سريع لتتحدث عن الرحلات الطلابية في بداية التسعينيات وموقف السلفيين منها، وتذكر قدراً من العادات والتقاليد الاجتماعية سواء في الفرح أو الحزن أو الحروز.
هي لا تختلف عن ثقافة الأمهات اللاتي لم يحصلن على قدر من التعليم إن رغبة «فرح» في أن تحيا كما تريد وأن تتعلم وتحب وتسافر وتكشف عن وجهها، كل ذلك لم يحررها إلى درجة القطيعة مع ثقافة أمها، بل إن خضوعها بشكل ما لذكورية هشام الذي جعلها هائمة ك «ذكور بنى عذرة» الذي ينتمي لهم العاشق المجنون قيس بن الملوح، ومن هذا الجنون يمكن أن نستعيد العتبة التي اختارتها المؤلفة في بداية الرواية لغارسيا ماركيز والتي تربط بين الحب والجنون. إن الخطاب الأنثوي لـ«فرح» لا يتجاوز المألوف وبما لا يصطدم بالأسرة والمجتمع، فهي لم تصل إلى درجة المغايرة مع ثقافة أمها في خضوع المرأة لفحولة الرجل الناضج.
تصف «فرح» حبها للفلسفة كونه تخصص «هشام» وتخصصها الذي واصلت الدراسة فيه حتى نالت درجة الدكتوراه رغبة منها في أن تدافع عن نفسها تجاه هشام وكذلك انقياداً للطريق الذي أراده لها، ومع ذلك فإن ثقافة «فرح» الفلسفية لا تتجاوز بعض عبارات عامة عن الفلسفة وبعض القصص المحيطة بالفلاسفة كـ«سقراط وافلاطون»، في حين أن عدد الأعمال السردية التي ذكرتها داخل الرواية يشعر القارئ بأن فرح قارئة قصص وروايات اكثر من كونها قارئة فلسفة.
تظل «فرح» أمينة على الثقة التي اولاها أبوها لها فهي حريصة على أن تكون بقدر هذه الثقة، وكل هذا الالتزام والانضباط أثناء الدراسة الجامعية لم يشفع لها عند أبيها كي يمنحها الإذن بدراسة الماجستير في الخارج، وموقفها الراضخ يؤكد خلو الرواية من نزعات انثوية تنحو باتجاه التمرد على ثقافة أبيها، المؤمن والخاضع للقناعات العامة: «البنت بنت حتى ولو حصلت على أعلى الشهادات» ص71، لهذا لم تكن «فرح» متمردة في أنوثتها فهي سعيدة بشهادة الآخرين لها بالاتزان والعقل تقول أثناء نيتها أن تخبر أباها برغبتها في دراسة الدكتوراه في مصر وبعد أن أصبحت أرملة، والأرملة لديها قدر من الحرية: «بدأت افكر بشكل آخر، وأن هناك عوائق عدة عليّ تخطيها لأحقق طموحي في التعليم والسفر ومعرفة العالم!.. وهذا يتطلب أحد أمرين: إما وجود رجل متفهم قادر على استيعاب ذلك، أو التمرد على المجتمع والأسرة، والأخير سيجعل مني إنسانه أنانية أولاً، وأمقت بالمقابل النظرة الأخرى على أني متمردة بعد أن كانت شهادة المجتمع لي بالاتزان والعقل».ص72، فأين الأنثوية بامتياز التي تتحدث عنها الدكتورة وجدان الصائغ! والمرفق في آخر غلاف الرواية، لا يوجد سوى رغبة في التوافق وعدم التمرد.
رغم آلام الإصابة جراء الانقلاب بالسيارة أثناء رحلة «فرح» مع زوجها «سامي» أثناء ذهابهم إلى عدن ووفاة زوجها «سامي» إثر ذلك الحادث الذي رتب له «زوجها» رغبة في التخلص من حياته بسبب مرضه بسرطان البروستات، رغم ذلك تجد متسعاً من الوقت للوعظ السياسي رغم عدم اهتمامها بالخلافات السياسية حسب تعبيرها، ومع ذك تشعر كقارئ من موقفها من العهد الإمامي ثم موقفها من أحداث الحرب الأهلية في 1986 في عدن وإن جاء على لسان «هشام» لكن هذا الحشو السياسي في رواية يأخذ الحديث عن الحب بلغة غنائية حيزها الأساسي، ومع ذلك فتأتي هذه المواقف السياسية بلغة ليست خالية من التحيزات كما تدعي «فرح» وإنما هي صادرة عن موقف سياسي سلبي تجاه الإمامة وسلبي تجاه المنتصرين في حرب 1986، وسردها سواء على لسانها أم بواسطة رسائل هشام الغرامية يجعل منها مواقف تستدعيها الذاكرة بقصدية تكاد تجعلها ناتئة بعض الشيء، ومع ذلك فإن حديثها في السياسة بلغة تشعرك وكأنها عميقة في تحليلها إلا أنها على سطح السياسة وليس في عمقها.