جثة طافية! (4)

جثة طافية! (4) - إلهام مانع

إليكم المشهد التالي من قلب دمشق:
المكان: أمام مبنى وكالة الأنباء السورية "سانا".
التاريخ: أحد أيام يوليو الماضي.
الوقت: منتصف النهار، والشمس حارقة تغلي.
شاب يمشي ومعه فتاته. تبدو خطيبته، من الطريقة الواثقة التي يمشيان بها معاً. وشابان مرا من جانبهما. وأنا أنتظر المناضل والحزبي المخضرم كي أجري معه حواراً في إطار دراستي الميدانية. أنتظره في المكان الخطأ. ولأنه كان ينتظرني هو الآخر في مكان يبعد نصف كيلو عن موقعي (أخشى أني كنت المتسببة في سوء الفهم الذي حدث)، ولأن هاتفي النقال أصيب كالعادة في مثل هذه المواقف بسكتة قلبية، كان من حظي متابعة المشهد الذي أحكيه لكم.
 تحرش أحد الشابين بالفتاة، رشقها بكلمة، وربما بلمسة من يده. وكما هو متوقع في بلداننا الحارة، قامت قيامة الخطيب. أمسك بخناق الشاب المعتدي ثم بدأ بضربه. والفتاة تحاول تهدئة رجلها دون جدوى.
 انتبه عسكريان واقفان لما يحدث. سارعا إليهما. أرادا أن "يحفظا النظام". فماذا فعلا؟
 أمسكا بتلاليب الخطيب والشاب المعتدي، وصفعا كلاً منهما على وجهه وقفاه. كلٌ ونصيبه.
صفعة هنا، وضربة هنا.
من منكم جرب صفعة العسكري؟
 فجأة استفاق الخطيب والمعتدي، كأنهما كانا في غيبوبة ثم خرجا منها عنوة. وضعا غضبهما، وهو يغلي يرتجف، في ثلاجة. وجمداه إلى حين. بقدرة قادر، تبخر الغضب الفائر، وحمية الشباب والرجولة، تبخر فجأة! ابتلعاه في جوفهما! دفناه في بطن الحوت.
لم أعد أرى له أثرا.
حل محله الخوف.
هل تعرفون معنى الخوف في بلادنا؟
خوف، ذل، ومهانة.
طأطأ الشابان رأسيهما وهما يتلقيان الصفعة الواحدة تلو الأخرى.
طأطآ رأسيهما! وغضب من نوع آخر يغلي في رمقاتهما. غضب آخر، مكبوت، حارق، ومهين. خِفتُ منه وأنا أتابعه. خفتُ من يوم انفجاره بالأصح؛ لأنه لو انفجر سيدفعهما إلى تمزيق العسكريين إرباً إرباً، بأسنانهما وأظافرهما.
كم منا شعر بذلك الغضب وهو يطأطئ الرأس رغمه؟
أليس من الغريب أني أحكي لكم عن مشهد رأيته في دمشق، وأعرف معرفة اليقين أن المشهد نفسه يتكرر كل يوم في أوطاننا العربية؟ يحدث اليوم، يحدث الآن، ويحدث هنا وهناك، في مصر، في اليمن، في السعودية، في تونس، في البحرين، وفي السودان... والحسبة تجر ما بعدها.
كم منا صفعه العسكري، وصمت؟
كم منا رشقه رجل الأمن بإهانة، فبلعها؟
كم منا شتمه رجل المخابرات، فأحنى رأسه؟
كم منا وقف أمام مسؤول الجوازات وشعر بالعرق يتفصد من مساماته؟
وكم منا نهره "مطوع" من رجال "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فطفر الدمع من عينيه وهو يغص بالخزي؟
كم...؟
كلمة "مواطن" بما تحملها من مضامين لا معنى لها لدينا.
من منا يعرف معنى أن يكون مواطناً في بلده؟
مصطلح "حقوق المواطنة" تبدو بلا معنى لدينا.
ما ليس له وجود، يصعب أن يكون له معنى نفهمه. ألستم معي؟
حق الكرامة.
الكرامة.
حقي في أن أكون إنساناً، يُعامل باحترام، يُعامل بتقدير.
حقي في أن أتوقع من رجل الأمن، العسكري، المخابرات، والمطوع، أن يتعامل معي كمواطن، ويجب عليه، أقول يجب عليه احترامه.
نعم، يجب على رجل الأمن احترام المواطن! يجب عليه ذلك.
جزء من واجبه.
أساس وجوده هو حماية المواطن واحترامه.
ليست صدقة. ليس هبة. ليست تكرماً من ولاة الأمر. بل حق. حقك وحقي.
أليس من الغريب أن نستجدي حقنا في الاحترام؟
وما دمت أستجدي حقي في الاحترام، كيف تتوقع مني أن أعمل؟ أن أصنع وطناً؟
أي عسكري بسيط يستطيع أن يبعثر كرامتك في الأرض متى شاء. يتلاعب بها كما تتلاعب الريح بريشة أو فتلة.
أي عسكري بسيط يستطيع أن يفعل ذلك. وأنتَ؟ أنتَ ستقف أمامه عاجزاً مكبل اليدين،
 ما دمت...
و"ما دمت" هذه فيها شجون كثيرة،
ما دمت لا تنتمي إلى فئة "المتنفذين الأقوياء"
 أو فئة "المال الذي يشتري"،
أو فئة "الحزبـ"، أو"المذهبـ"، أو"المنطقة"، أو "القبيلة".
"ما دمت وأخواتها"،
تحكي قصة أوطاننا العربية.
تلك التي ما زالت تمشي عرجاء، لا هي غراب ولا هي طاووس.
دولة "البين بين"، ما زالت في "منزلة بين المنزلتين".
لا هي مدنية ولا هي دينية (باستثناء السعودية وأخواتها).
لكنها عسكرية حتى النخاع.
لكنها مخابراتية حتى النخاع.
لكنها قبلية ومذهبية حتى النخاع.
دولة عرجاء.
لا تحب مواطنيها ومواطناتها.
بل تخاف منهم.
تخافهم لأنها تعرف قوتهم متى استفاقوا.
ولذلك ترعبهم.
وتحولهم عامدة إلى نفوس خائفة مكسورة.
دولة يستطيع فيها أي عسكري بسيط أن يصفعك على قفاك، فتنسى امرأتك، وكرامتك، وتغص بخزيك، ثم تطأطئ رأسك.
ألم أقل لكم، كلنا في الهم وطن؟
وطن هنا، ووطن هناك.
جثة تطفو، وأخرى تنتفخ.
والنهر يجري وهو تائه.
النهر يجري وهو خائف.
[email protected]