نحيلة.. وحيدة.. بيضاء

نحيلة.. وحيدة.. بيضاء - هدى جعفر

- إهداء إلى رجل ثلاثيني يعرف نفسه.
الساعة تقترب من التاسعة والنصف مساء. هذا يعني أن الاحتفال قد بدأ منذ ساعة, ويعني أيضا أن رجال الأعمال لن يكفوا عن عادة التأخير السيئة أبدا. نهض من فراشه متجها الى الحمام. وقف في حجرة الصالون الكبيرة. إن أثاثها فاخر حقا، وخاصة الطاولة الخشبية التي تتوسطها حاملة الكثير من التذكارات التي جاءته من نساء عرفهن في حياته الصاخبة المليئة بالأسماء والوجوه. كان حريصا دائما على أن يأخذ تذكارا من كل امرأة عرفها، ولا يدري لماذا. ربما عليه زيارة طبيب نفسي كي يعرف السبب. إن بيته جميل وأنيق، ولكنه موحش، وقد زاده ليل لندن كآبة وحزنا، ولن يبدد هذا الجو المقبض سوى وجود الأنثى. صحيح أن الكثير من صديقاته دخلن هذه الشقة، من رؤوس شقراء بأجسام نحيلة ترتدي المعاطف، إلى رؤوس ببشرة سمراء ورائحة عطر عربية لا تخطئها الأنف, كلهن دخلن هذه الشقة ولم يتركن أشياء تذكر سوى -في أحوال نادرة- قلم كحل أو خاتم ثمين أو حقيبة يد حريرية، ولا شيء آخر. لقد اعتاد على هذه الحياة، ولكنه لم يشعر قط بالوحدة والضجر والخوف مثل هذه الأيام, لقد سمع عن قصص مرعبة تحدث للذين يعيشون بمفردهم في هذا الحي. إن الأشباح لم تتقاعد بعد وما زالت تدخل الرعب الى قلوب أكثر الرجال شجاعة وقوة و... ووسامة. تنهد بعمق، ثم اتجه نحو الحمام. وقف أمام المرآة الكبيرة المعلقة على الحائط, إنه وسيم، وسيم حقا, ولذلك بكت "ماجي" بهذه الحرقة عشية فراقهما، ولذلك، أيضا. وسطت "ميسون" جميع أصدقائهم كي يسمح لها برؤيته لآخر مرة.
إنه ثلاثيني، أعزب، وسيم وهذا ما يهم في هذه اللحظة. إن الحفلة التي سيذهب إليها مليئة بـ"ماجي" و"ميسون" وغيرهن من الحسناوات، وهذا يعني أن بانتظاره ليلة حافلة بالأحداث والمجاملات وأرقام الهاتف. أخذ مشطه العاجي وبدأ بتصفيف شعره الفاحم. ولكن لحظة! هل هو واهم؟ أم أن هناك من عبر الردهة خلفه؟ نظر إلى الباب وأطال النظر لمدة ربع دقيقة، ولأنه لم ير شيئا ابتلع مخاوفه وأكمل ما كان يقوم به، وعندها تسمرت عيناه وضرب قلبه بقوة عندما رآها. نحيلة، وحيدة، بيضاء، تقف في هدوء وسط الظلام. فتح فمه ليصرخ، ولكنه تذكر أن الصراخ لا يجدي. على الرغم من أنه لم ير لها عينين, إلا أنه شعر بهما تحدقان في وجهه بتحد وجرأة. تسارعت أنفاسه، وشعر بجفاف في حلقه. إلى متى سوف تظل واقفة في مكانها بلا حراك؟ ومن أين أتت بكل هذه الشجاعة وهي مجرد حمقاء أخرى؟ لماذا لا تخاف منه مثلما هو خائف منها؟ لماذا لا تخاف الصراخ أو التهديد أو حتى فوهة مسدس موجه إلى جسدها الناحل؟ إنه كان يتوقع رؤيتها بل ويخشاها. إنها ليست زيارة عابرة ولا قدوما مؤقتا. إنها أتت لتبقى. صديقه "رايان" رآها بينما كان ذاهبا إلى عمله. أما "زياد" فلم يرها هو -لسوء حظه- بل رأتها "سونيا" في إحدى سهراتهما الخاصة، وقد كانت الزائرة كعادتها: نحيلة، وحيدة، بيضاء، تقف في هدوء وسط الظلام. ومن يومها فترت علاقة "سونيا" بـ"بزياد"، فزيارة هذه النحيلة، الوحيدة، البيضاء, تعني أكثر من مجرد حادثة أو صدفة. تحامل صديقنا على نفسه وخرج من الحمام, التقط هاتفه الخليوي وطلب رقم أحدهم (وليس إحداهن؛ إن الإنسان لا يطلب رأي النساء في مثل هذه الأمور)، تحدث باقتضاب مع الطرف الآخر، وخط شيئا ما في ورقة صغيرة، ثم ارتدى ملابسه وخرج مسرعا, سار في الشارع المظلم ثم دخل آخر حانة على اليسار. خرج بعد سبع دقائق وفي يده كيس صغير, لو دققنا النظر لوجدنا أنه كيس صيدلية، ولو دققنا النظر أكثر لوجدنا أن داخل الكيس صبغة "........." الممتازة في تغطية الشعر الأبيض.
[email protected]