بعض الأشياء عن عمو محمد سليم

بعض الأشياء عن عمو محمد سليم - هدى جعفر

قصة حقيقية 1948
دماء، صراخ ونواح، جثث متكومة، أمهات يصرخن في جزع، ورجال يبكون في صمت وفي قهر أيضا. لا أصوات للأطفال، لأن أغلبهم قد ذبح ودفن في مقابر جماعية. أيتام جدد. صحفيان أو ثلاثة يوجهون كاميراتهم، يصورون نتائج المذبحة الاولى. عائلات فلسطينية نازحة تحمل الملابس والأواني والأحزان تخرج، رغما عنها من بلادها وهم لا يعرفون أنهم لن يعودوا إليها مرة أخرى.
 محمد سليم مراهق يمشي مع عائلته الراحلة. نظر إلى الخلف، ومن بين دموعه ألقى نظرة أخيرة على الأشجار والأرض والبيوت الفلسطينية المحملة بالحب والذكريات. ومثل الآلاف الذين تركوا فلسطين في تلك السنة, كانت هذه المرة الأخيرة التي يرى فيها بلاده الجميلة التي سيقضي عمره كله يحلم بالعودة إليها.
سنوات طويلة من السبعينيات وحتى التسعينيات
فيللا فخمة في حي "السلامة" في مدينة جدة السعودية. تجارة رابحة. نجاحات كثيرة. زوجة باسلة وأم قديرة وتسعة أبناء، غاية في اللطف والتهذيب. ومحمد سليم صاحب كل ما سبق بعد أيام طويلة من العمل والتشرد والجوع، ونحن (أنا وأخواتي) صديقات لبناته صداقة نادرة متينة أثمرت ذكريات جميلة لا تنسى وقلما يجود الزمان بمثلها, جمعتنا الكثير من القواسم المشتركة، ربما كان منها أن عائلتينا كبيرتان بعدد بنات كثير، بالإضافة إلى أننا نسمع ذات الكلمة دائما في تلك البلد: "أنتوا أجانبـ"، كما أنهم كانوا بالنسبة لي يحملون جنسية البطولة. وحينما كنت أسمع قصص الاحتلال في فلسطين وعن أطفال الحجارة، كانت هذه العائلة تزداد مكانة في قلبي، فهم أقرباء هؤلاء الأبطال الصغار. كنت أزور بيتهم كثيرا لنلعب في الحوش الواسع. وكنت أضطر أحيانا إلى المرور من الحُجْرة التي يجلس فيها عمو محمد سليم يشاهد التلفاز (أخبار فلسطين ولا غير). وعندما يرى حيرتي وخجلي يقول لي في لهجة فلسطينية حميمة: "تعالي يا عمو لا تستحي". ذهبت لأسلم وكأني آلة، واختلست إلى وجهه نظرة واحدة حاولت أن أستوعب ملامح وجهه التي لم تكن سوى ملامح أب فلسطيني جدا. مر على هذا اليوم أكثر من ستة عشر عاما قابلته بعدها كثيرا وأغلبها كنت وأنا أرتدي عباءة وحجاباً بعد أن تغيرت كثيرا في الحياة ولكنه الذي لم تتغير لهجته الفلسطينية التي أكاد أشم منها رائحة برتقال يافا: "أهلين يا عمو! كيف حالك؟".
قالت لي ابنته (التي تحمل اسمي نفسه) إنه ليس سعيدا كثيرا بثروته، وليس لوالدها أحلام سوى أن يزور فلسطين لمرة واحدة ويستعيد شهادة الابتدائية الموضوعة في وسط مصحف في مسجد في يافا.
الخميس 2 - 8 - 2007 بعد صلاة الفجر
مات عمو محمد سليم، بعد علاقة طويلة مشؤومة مع المرض والأحزان ترك زوجته وبناته وأولاده وأحفاده، لن أقول ثروته، لأنه خسرها كلها. وكأنه يريد أن يرحل كما جاء يوما ما من يافا، رحل في هدوء ودون صخب كبير.
لم يعد يتحمل قلبه مصائب بلاده الكثيرة ومشاكله الكثيرة وآلامه الكثيرة. مات فلسطيني آخر دون أن يعود إلى فلسطين.
 غافل عائلته ورحل وحيدا, مات بعد أن تحولت أخبار فلسطين التي كان يشاهدها إلى جلطات سدت شرايين قلبه المتعب.
 مات عمو محمد سليم دون أن يعود إلى يافا كي يسترد شهادته الابتدائية الموضوعة في مصحف في أحد مساجد يافا. ودخلت أنا بيته في غيابه، وقفت كثيرا أمام صورته الموضوعة في وسط الصالون، صورة جميلة بالأبيض والأسود، تشبه اللونين الذين لم يكن يحيد عنهما في حياته: كان صريحا جدا (أبيض) وحزينا جدا (أسود). وقفت طويلا عند هذه الصورة؛ ربما كنت أنتظر منه الجملة التي طالما كانت تعجبني: "أهلين يا عمو! كيف حالك؟"، ولكنه لم يقلها ولن يقولها. ولكني سأنتظر، سيقولها لي ذات يوم، ربما بعد أن أموت أيضا وأزوره في بيته في الجنة. أنا سأنتظر، ولكن هل ستنتظر شهادة عمو محمد سليم المحفوظة في مصحف في مسجد في يافا؟!
[email protected]