نافذة.. عدن بما هي مجنون يبيع بيته وهو ميت!

نافذة.. عدن بما هي مجنون يبيع بيته وهو ميت! - منصور هائل

رجعت يوم الثلاثاء الماضي من عدن إلى صنعاء، ووجدتني على موعد مع سؤال الأحوال في عدن. ولأول مرة شعرت أن سؤال عدن اليوم لم يعد يحتمل الاستخفاف والاستهانة، ولم يعد بميسوري الالتفاف عليه ومراوغته بكلمات فضفاضة وعمومية، جرت العادة أن نلجأ إليها لنبدو كمن يقول كل شيء وهو لا يقول أي شيء.
وبالنظر إلى علاقتي الخاصة بعدن الحاضنة لجذع العمر ونرجس صباه، وأزاهير ربيعه، فقد عدت منها هذه المرة حزيناً مكلوماً متوجعاً من اجترار زجاج التفاصيل القاطعة، الجارحة للذهن والأمعاء، ولم أقدر على الاندلاق بجواب مستعجل، لأني تزاحمت بانطباعات وصور وروايات بوزن دهر ثقيل رغم أن زيارتي لمدينتي الذبيحة لم تزد عن يومين، وعجزت عن تظهير مقطع صورة واحدة بتلك الطزاجة اللاسعة التي عشتها، لأن ضراوة التشوش أضرمت حرائقها في دمي وكياني وأدمعي، ولم أعد أسمع و لا أرى ولا أعي. فكيف بالله يا ترى سأقارب سؤال الأحوال في عدن؟ ومن أين أبدأ؟
وقلت: لتكن واقعة مجنون حارة الخساف بمدينة كريتر، وإقدامه على بيع بيته وهو ميت، هي مفتاح الاجابة على سؤال أحوال عدن التي أضحت وقائعها لا تقبل التنازل عن حقها في السبق على الخيال.
والحال أن ما حدث لمجنون الخساف وعائلته يعطي أكثر من إشارة عن حالة عدن التي أضحت مفهومة لأي شخص غير حليم.
والحكاية أن جميع أهالي الحارة يعرفون مجنونهم الذي أكلت وجهه الارصفة وشرب التسكع أيام عمره منذ فترة تزيد على عقد ونصف، ويعلمون أنه كان ينقطع عن زوجته وأطفاله لأيام وأسابيع، يرجع بعدها لينام ليلة أو أقل ثم يرحل في متاهات تشرده الطويلة.
ويقول شهود عيان من الأهالي إن مجنونهم انقطع عن زيارة أهله منذ فترة لمدة شهر وكان ذلك بعد أن تفضل بعض «أهل الخير» بمصاحبته واصطحابه في سيارتهم ولم يعيدوه إلا وهو جثة هامدة وقد حرصوا على توصيل جثمانه بسيارة إسعاف إلى مقر عمل زوجته التي امتصت صدمة كانت تهيأت لها وشكرت «أهل الخير» و«أبناء الأصول» على صنيعهم، وذهبت لتواري جثمان شريكها وأحزانها.
وفي اليوم التالي ظهر طقم عسكري بمعية الجماعة إياهم، وكانوا في هذه المرة، أشبه بأبالسة الظهيرة حينما شرعوا في «التخبط» وطلبوا من الزوجة وأطفالها إخلاء البيت بزعم أن المرحوم باعه لهم، ووقع وبصم. وقد عرضوا واستعرضوا ورقة مبايعة لم تنطل عليها وعلى جميع أهالي الحارة الذين هبوا بوجه هؤلاء «الطارئين»، كإعصار: «ارحلوا أيها اللصوص. مسكين المجنون لم يفعلها وهو حي يرزق، فكيف يفعلها وهو ميت؟ حتى المجانين لم يسلموا من الفيد»!
المحنة أن «هؤلاء» ما زالوا يشكلون لعنة تطارد العائلة وكابوسا يلاحق الأم في صحوها ومنامها.
والمفارقة أن مجنون حارة الخساف يشير اليوم إلى حالات عدة، ويفسر بعض ما يغتلي ويمور في ساحة المحافظات الجنوبية، كما يؤشر إلى الوجه المجنون للوضع الذي أعاده ملف «القضية الجنوبية» إلى الواجهة.
mansoorhaelMail