سلاماً صعدة والحرية لعدن

سلاماً صعدة والحرية لعدن - عبدالباري طاهر

بدأت بشائر وأنسام السلام تهب على صعدة، المحافظة المنكوبة بالحروب. وحسناً فعل الأخ الرئيس والمتمردون بالاستجابة للمبادرة السلامية القطرية بوقف الحرب، والاستجابة لمنطق الأخوة و السلام والتصالح.
تشهد اليمن كلها تململاً حاداً في مختلف المناطق. فالمناطق الجبلية البعيدة عن سلطة الدولة يريد نافذوها الإبقاء على عزلتها بينما تريد الدولة -ومعها حق-  فرض هيبتها وامتدادها. ولكن ليس بالمدفع وحده تحضر الدولة. وفي المناطق الحضرية يتخذ التململ طابع الاحتجاجات المدنية: الاعتصامات، المظاهرات. ومن كهوف التعليم المذهبي السلفي يخرج الإرهاب الأعمى لتدمير أهم معالم الحضارة البشرية في مأرب. ويطال السياح، ويضرب الأمن والسلام والاستثمار. وتقف الدولة اليمنية متأرجحة بين هذه التحديات الكبيرة. فدولة 7 يوليو «المعمدة بالدم» كما يحلو لوزير الاعلام، بدأت تكتشف، ولو متأخرة جداً، أن الدم لا يجر إلا الدم، وأن جراح حرب 94 ما تزال تنز بالدم في أكثر من منطقة، وأن معركة صعدة لا يحسمها الا السلام.
احتجاجات عدن واعتصام الآلاف من العسكريين والامنيين والمدنيين شاهد فضيحة وكارثية حرب 94. والاحتجاج المدني في عدن لا يقتصر على هذه الآلاف المقصية عن وظائفها لأسباب وتهم معمدة بالدم: «انفصالي، مرتد، اشتراكي، خارج على الشرعية». ويكون الانفصال ماركة مسجلة للجنوب، والوحدة المعمدة بالدم ملكية خاصة للشمال، حسب الاعلام المتهافت ليس «الانفصاليون» الجنوبيون على قلتهم من كرس منطق «شمالي جنوبي»، وانما سود وسيد هذا المنطق المحاربون الآتون من احراش القبيلة وأتون الدكتاتورية الملطخة بالدماء وقيم الثار والحروب القبلية والفيد.
الحرب الكريهة ضد الجنوب اتخذت شكل وطابع الاستباحة والاستحلال حسب فتوى الاسلام السياسي.
والحرب وإن استهدفت الانقلاب على الشريك في الوحدة (الحزب الاشتراكي) والانفراد بالحكم إلا أنها (أي الحرب) قد حملت ورسخت دلالات اكثر ضرراً وخطورة وتخلفاً. فهي تمتح من بئر الثار والانتقام، وتعيد انتاج صراعات حالكة، وتغرب جوهر التصالح الوطني والتعدد السياسي والفكري الذي قامت على اساسه دولة الوحدة (دولة ال22 من مايو 1990).
التباهي بعيد ال7 من يوليو محاولة بائسة لاستعادة اعياد النصر الامامية. وهو تعبير مكثف عن الاحتفال بالانتصار بالحرب على الوحدة السلمية والديمقراطية. فالحرب كانت اعلانا داوياً لرفض التداول السلمي للسلطة، وجعل الحرب الوسيلة الوحيدة للظفر بها.
حقاً لقد شهدت اليمن انتخابات للرئاسة وللنواب والمحليات. وكلها تؤبد رموز الحرب، وتنتصر لأتباعها بالزج بالوظيفة العامة والجيش والأمن والمال العام. فالحرب الاجرامية قد قطعت الطريق على التطور السلمي للوحدة، وفتحت الابواب أمام حروب داحس والغبراء، وحرب صعدة والحروب الصغيرة والمستدامة معطى من معطيات حرب 94.
ان تململ الشعب اليمني ومؤشر الاحتجاجات المدنية في صنعاء وحضرموت وعدن هو المؤشر لنهايات حكم القبيلة المعسكرة القائم على الغلبة والفيد.
استجابة الأخ الرئيس لمطالب المبعدين الجنوبيين عن وظائفهم بادرة طيبة. ولكنها لا تكفي بل لا بد من إصلاح شامل يطال كل شيء في تركيبة الدولة الهرمة. فحرب صعدة بحاجة إلى التحلي بالصبر، واعطاء فرصة اكبر وأوسع للوسطاء القطريين واليمنيين، ومعالجة أوضاع المناطق المحرومة من ابسط الخدمات وتضميد الجراح، وربط هذه المناطق بجسد الدولة. وتخلي الدولة، عن نهج الحرب وإذكاء الاحتراب القبلي. أما بالنسبة للجنوب فإن الدهم خلق مصالحة وطنية ومجتمعية شاملة تعيد الاعتبار لأبناء الجنوب الذين اضيموا بالحرب، والتخلي عن الاسلاب والغنائم المتجلية في اقصاء ابناء الجنوب عن المشاركة في الحكم، ورفض المركزية البليدة التي تكرس الحكم في صنعاء لتقصي كل المناطق، وايجاد حكم محلي حقيقي.
معروف أن مدينة عدن هي العاصمة التجارية على مدى عقود عديدة، وهي الحاضنة الأولى في اليمن -بل والجزيرة والخليج -للعمل النقابي، فقد تأسست النقابات العمالية مطلع الاربعينيات من القرن الماضي، وتأسست الصحافة العدنية القابلة للنهضة الفكرية والادبية وحرية الرأي والتعبير، وتأسست الأحزاب السياسية التقليدية للأحرار والرابطة والحديثة: البعث والقوميين العرب، والماركسيين في الخمسينيات. وفي ظل الانفتاح الاقتصادي الذي اتاحه الوجود الاستعماري البريطاني في المحمية عدن، فقد ازدهرت التجارة والتوكيلات التجارية والطبقة الوسطى، ومثلت عدن مركز المعارضة الحقيقية ضد النظام الإمامي الثيوقراطي والاستعمار في آن.
حركة 48 كانت قيادتها من الأحرار في عدن. وكانت عدن الخلفية ومركز الاشعاع الحضاري والفكري والأدبي والسياسي للشمال الظلامي والقبوري أو «مملكة الموتى» كتسمية سلفادور ابونتي السائح الايطالي. رفدت عدن الشمال بولادة الاحرار، وبولادة الاحزاب الحديثة التوحيدية، والحركة النقابية للعمال. كما احتضنت كل المعارضة السياسية: الأحرار والاتحاد اليمني وصوت اليمن.
وعندما هزمت حركتا 48 و55 وجد الاحرار في عدن الملاذ الآمن، كما وجد المزارعون والعمال وأصحاب الحوانيت والفنانون والحرفيون فيها الحضن الدافئ ومن مختلف المناطق اليمنية. وقفت عدن ضد نظام المخلقة الاستعماري واسقطته. كما اسقطت الرهان الاستعماري على مخطط الجنوب العربي أو المحميات. والكتائب من الفدائيون هم من تولى الدفاع عن 48. وبعد ثورة سبتمبر 62 دفع «الانفصاليون» الجنوبيون بالمئات والآلاف من المتطوعين دفاعاً عن الثورة والجمهورية!!
يستهين فقهاء السلطان بذاكرة الشعب ولا يدركون ان مفجري ثورة اكتوبر 63 في جبال ردفان هم العائدون من جبال رازح ووشحة وارحب وبرط وحريب و مارب دفاعاً عن ثورة سبتمبر. ويتناسون أن المضحين الحقيقيين هم الوحدويون، أما المحاربون الاشاوس من اجل التهميش والالغاء وتوزيع تهم الردة والانفصال والعمالة فلا يمكن ان يكونوا وحدويين بحال.
امتلاك السلطة بالحرب وحمايتها بالحرب ما لها الحرب، وتهميش المناطق المختلفة، والغاء المشاركة، وقطع الطريق على أمل التداول السلمي للسلطة يجعل التقاتل خياراً وحيداً ايضاً.
نردد مع الفيلسوف الايطالي «غرامشي»: «لا يهزم تشاؤم العقل الا تفاؤل الارادة».
وتفاؤلنا ليس آتياً من الوهم فتراجع اصوات الحرب في صعدة، والإدانة اليمنية والدولية للاعمال الارهابية في مأرب، ومأزق دعاة الحرب الواصلة حد الافلاس، وتزايد الاحتجاجات المدنية في صنعاء وعدن وحضرموت وغداً تعز والحديدة وحجة وصعدة وبقية مدن اليمن وحواضرها.
تستطيع الدولة المستبدة ان تنتصر بالحرب وللحرب، ولكنها في مواجهة الاحتجاج المدني والمسالم تجد نفسها تقاتل في غير ميادين القتال, ويكون سلاحها الفتاك ولغتها «المعمدة بالدم» والمحشوة بالجماجم والاشلاء عاجزة عن حمايتها والدفاع عن فسادها واستبدادها.