في تحول الشاهد إلى ضحية.. صحيفة «النداء» والنائب حاشد نموذجاً حديثاً

في تحول الشاهد إلى ضحية.. صحيفة «النداء» والنائب حاشد نموذجاً حديثاً - وضاح المقطري

الكثير يمكن أن يحدث حين يحاول صوت الضحية الارتفاع بحثاً عن إنقاذ (إنقاذ فقط) والأكثر سيحدث إذا طلب الضحية إنصافاً. وبما أن الضحية لا يستطيع رفع صوته غالباً، وتشاء الظروف ان يتدخل شهودنا لرواية المأساة، يصبح الشهود هم المعنيين بما سيحدث لاحقاً، كونهم صاروا احتمال ضحايا جدد عليهم دفع عمَّا شهدوه، قبل حتى أن يحاولوا نقله للآخرين، أو أن عليهم أن يعرفوا ما حدث؟ ولماذا حدث؟ وما ينبغي لإنصاف الضحايا؟ ويصير عليهم حينها اتقاء ما سيحدث، والبحث عن الأمان بكل ما هو ممكن؛ إذ لا جدوى من الصمت، خاصة حين يكون الشاهد يقظ الضمير، فالجاني لا يحس بالأمان في عدم تحول الشاهد إلى ضحية أخرى صامتة.
محررو صحيفة «النداء»، والنائب أحمد سيف حاشد نموذج حديث لشهود افترض الجناة تحولهم إلى ضحايا جدد كي تستمر الحقيقة غائبة، ويظل الضحايا في ذاكرة النسيان زمناً مجهول النهاية، لا لشيء سوى أنهم -أي الضحايا/الجناة، وكونهم الضحايا أيضاً- قمامة بشرية قذفت بهم بلدانهم إلى هنا في حالة اكتشاف النائب مسلخاً -كان مجهولاً- للكرامة البشرية.
محررو «النداء» يتلقون تهديدات بتحويلهم إلى ضحايا من نفس نوعية الضحايا الذين يحاولون إنصافهم الآن، على الورق طبعاً. والنائب أحمد سيف حاشد يتعرض للاعتداء والإحتجاز والتهديد بالقتل لاكتشافه جريمة عنصرية مستمرة منذ زمن بسادية رهيبة تجاه بشر ألقت بهم أقدارهم خطأ في وطن يهرب أهله منه، أو يباعون رقيقاً في الدول المجاورة. وهي مفارقة بائسة ومرعبة حد الموت.
***
ربما يصيبنا القلق من قيام «النداء» بفتح ملفات من الماضي التعيس نظراً لصعوبة المهمة، وما تتطلبه من جهد أكبر من الممكن والمتوقع، ما قد يجعل الملفات غير مكتملة في ظل الظروف التي يُجد الجميع على العيش في ظلها، لكن هذا القلق لا يمنع الاعتراف بضرورة وإنسانية ما تقوم به الصحيفة، بل وإلزامه لكل الأطراف والجماعات بفتح ملفات المصالحات الحقيقية لإنصاف الضحايا، وتنقية أرواحهم من كآبة الماضي، والسماح للجناة بتحرير أنفسهم من الذنوب، والإندماج في المجتمع دون أن يستقر إحساسهم المفترض بالأمان.
حريٌ هنا أن نتذكر أن أحد الأطراف السياسية الموجودة على ساحة اليوم، كان يقود دولة متكاملة مورست في ظلها الكثير من الانتهاكات، ونشبت صراعات عدة أضرت به، وبتاريخ الوطن كثيراً. وبرغم محاولاته التخلص من عبء القمع الذي عرقل مسيرته، إلا أن تلك النوايا لم يتح لها التعرض لاختبار مصداقيتها، بسبب ما تعرض له من حرب وإقصاء وإلغاء وتهميش وتنكيل، ونهب لممتلكاته ومقراته، وتخريب بنية الدولة التي كان يقودها، وإتلاف وثائقه ووثائقها وتزوير تاريخه، ومن ثم استخدام هذا التاريخ في التعريض والتشهير به وبقادته، وحوله بالتالي إلى ضحية مرتين: الأولى لتاريخه بسيئاته وحسناته (التي بدلت سيئات أيضاً) والثانية لحرب الإقصاء والإلغاء التي تعرض لها، ما ألقى بكل هذا العبء على أجياله اللاحقة التي لا ذنب لها سوى الانتماء إليه، ووضعته في محك خطير بين الرغبة في إعلان الندم على سيئات الماضي مصحوباً بالخوف من استغلال ماضيه للتعريض به كما يحدث كل مرة، والتطلع إلى مستقبل مشبع بالحرية والأمان.
***
حتماً ثمة طريق آخر ينبغي العبور عليه بدلاً من تهديد المحررين بالإخفاء القسري، كونهم حاولوا أن يكونوا شهوداً على جزء مما حدث لضحايا ذهبوا إلى المجهول. لكن هذا الطريق محفوف بعدم رغبة الجناة في التطهر، وشهيتهم المفتوحة لضحايا جدد.
ثمة طريق آخر، إمكانية للمصالحة إن رغبت جميع الأطراف في ذلك، فالزمن صار يلزم الجميع بالإعتراف والاعتذار، والعفو، وإعادة الاعتبار لكرامة الضحايا، التي أُهدرت في ظروف كان لا بد للبلد أن يمر بها، كونه جزءاً من منطقة وقعت تحت تأثير التجاذبات الدولية للقوى الكبرى، وأصبح عليه أن يغتسل من هذا كي يشعر الجميع بالرضا والأمان.
***
أحمد سيف حاشد اشتهر بأنه النائب الذي يحاول الانتصار للبسطاء والمقهورين من خلال عضويته للجنة الحقوق والحريات في البرلمان، أو عبر صحيفته الشعبية واسعة الانتشار، والتي كرست صفحاتها لنقل مشاهد لا يصل إليها الآخرون. وهو زبون دائم لدى أجهزة الأمن، ورجل يرفض حضوره مسؤولو السجون وأجهزة القمع.
كما يحدث في الأفلام حين يكتشف المجرم أثناء ممارسته لجريمته بسادية وتلذذ أن ثمة من رأى وسمع فعلته، فيصيبه الفزع، وتستثار رغبته في الإحساس بالأمان؛ فوجئ مسؤولو أمن مصلحة الهجرة والجوازات بنائب برلماني يكتشف سجنهم السيئ وجرائمهم العنصرية فيه، فاندفعا لإسكاته وإخضاعه لجبروتهم. ولم يكن التهديد بالقتل عبارة فارغة عبرت شفتي شاويش أخرق، بقدر ما كانت رسالة واضحة لأي محاولة اقتراب جديدة من تلك الأقبية التي امتهنت كرامة بشر مرشدين بلا حدود.
نزلاء هذا السجن ضحايا أمور كثيرة، أولها ظروف واحتقانات بلدانهم، وليس آخرها أجهزة أمن مشبعة بالسادية. ولسوء حظهم كانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار: هربوا من ويلات أوطانهم، وحلوا ضيوفاً على وطن من السجون والمعتقلات، ولا يوجد من يهتم بهم أو بقضاياهم، حتى مفوضية اللاجئين لا تستطيع لهم سبيلاً، أو كما أفاد أحدهم أن قاضي المحكمة التي حُوكم فيها أكد له أن هذه المفوضية «تحت أحذيتنا» (أحذية السلطة)، والنظام الذي يتباهى بكونه يفتح ذراعيه لهم، يستجدي بهم البيان والمساعدات الدولية، ويتعامل معهم بعنصرية وتهميش كما يتعامل مع الكثير من أبناء البلد.
الأكثر فداحة فيما تعرض له النائب حاشد أن رئاسة مجلس النواب اعتبرت زيارته لهذا السجن غير قانونية، أو كما قال الراعي فإن حاشد ليس وزير الداخلية. وعند هذا نكتشف أن انتهاك كرامة مجلس النواب تحدث في قاعة المجلس قبل أن تقوم بها الأجهزة الأمنية. ويثير الاشمئزاز والضحك معاً تصريح المصدر المسؤول في مصلحة الهجرة والجوازات بأن النائب تسلل إلى السجن منتحلاً صفة صحفي (كأن الصحفيين أولى من أعضاء البرلمان في تفتيش السجون، أو كأن أمن المصلحة يقبلون بدخول صحفيين لكشف ما يرتكب من فضائع، وزد على ذلك تصويرهم لحاشد بسوبرمان تمكن من اقتحام أسوار المصلحة والوصول إلى الضحايا، في رواية المصدر).
الآن، من يقدم لهؤلاء اعتذاراً، أو يحقق لهم العدالة والإنصاف، ويعيد الاعتبار لانسانيتهم؟ ومن يعيد لمجلس النواب هيبته وكرامته التي أذلها هو قبل زبانية الأمن؟ فما حدث لحاشد لا يعدُّ انتقاصاً لحقه، إذ يكفيه شرفاً أنه كان صوتاً إنسانياً فضح ما كان مخفياً من عنصرية أجهزة الأمن. لكن البرلمان هو المعني بانتهاك كرامة نفسه.
ينبغي للمنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية الانتصار لأولئك السجناء، والالتزام أخلاقياً بالوقوف في صفهم. أما مجلس النواب إن رد الاعتبار إليه لن يكون سوى بأيدي الناخبين بعد عام وعشرة أشهر من الآن... فهل يحدث هذا؟
maktariMail