الوحدة الوطنية وعضات الزمن

الوحدة الوطنية وعضات الزمن - عبدالباري طاهر

الوحدة اليمنية حلم رائع وهدف نضال الشعب اليمني منذ مراحل باكرة في التاريخ.
وأهمية هذه الوحدة تستمد من بيئة وطبيعة اليمن القاسية والشموس، كقراءة الأحرار اليمنيين. فهذا البلد الطيب، كوصف القرآن، أيضاً متنوع ومتعددة وتركيبته الموزعة بين جبال شاهقة وسهول مترامية وقرى منثورة ومذرورة بين جبال وسهول وصحارى قد جعلت التفكك والتمزق والانقسام سمة عامة وتاريخانية.
قامت الدولة المركزية في اليمن للمرة الأولى علي يد كرب آل وتر في القرن السابع قبل الميلاد. وتوحدت بصورة كلية في الربع الأخير من القرن الثالث الميلادي. ولم يبدأ التمزق إلا مع الغزو الاجنبي، البيزنطي، والحبشي والفارسي، بعد أن استمر التوحيد قرابة ال250 عاماً. وقد استعادت الدولة الوحدة في العهد الصليحي في القرن الخامس، وفي عهد المتوكل علي بن اسماعيل في القرن الحادي عشر.
ورغم المراوحة بين التمزق والتوحيد فإن الكيان اليمني ظل موحداً في الوجدان والثقافة والمصير. ومن هنا فإن الولايات التي حكمت اليمن كان حكمها يقوم تحت مسمى اليمن حتى بعد التطويح بالامامة والظفر بالاستقلال. وقد استطاع الايوبيون ومن بعدهم آل رسول، مد حكمهم إلى مختلف مناطق اليمن.
وهناك سمة عامة في التاريخ اليمني وهي أن كيانها التاريخي انما يقوم على ائتلاف واتحاد القبائل والجهات والأطراف القوية.
وغالباً ما ارتبط التمزق بالصراعات الكالحة للأقيال والأذواء والتدخل الاجنبي. وكان التوحيد دائماً يلقى الاستجابة العامة رغم مظاهر الغلبة والقوة.
لا شك في أن وحدة ال22 من مايو 90 تختلف كلياً عن الوحدات السابقة، فهي لم تكن ثمرة كفاح مسلح أو حرب تحرير.
فالوحدة كما يعرف الجميع، تمت بالتحاور بين طرفين أساسيين: المؤتمر الشعبي العام، والحزب الاشتراكي. ومثل التوحد قسمة على اثنين، واتخذ طابع الدمج بين كيانين شموليين ومتقاتلين. لذا كانت الوحدة بمثابة مصالحة وطنية شاملة. وشابها قصور في جوانب عديدة كان أخطرها عدم الاعداد الجيد، والتقاسم، وتغييب العديد من الاتجاهات السياسية والفكرية والحزبية والمجتمعية من المشاركة.
صحيح أن الوحدة قامت بشرط التعددية والديمقراطية، وإطلاق الحريات العامة والديمقراطية، واحترام حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وهو ما تضمنه دستور دولة الوحدة الذي كفل المساواة بين الرجل والمرأة. كانت الديمقراطية الوسيلة والغاية في آن.
لكن الفاجع أن الطبيعة اللاديمقراطية للنظامين الشموليين السابقين دفعتهما لأن يحملا معهما بذور الصراع، وتغييب القوى الاخرى، واحتفظ كل منهما بأدوات القوة كحماية لحصته في التقاسم. وبديهي أن يكون الطرف الأقوى صاحب الغلبة.
لا ينبغي أن نبرر الحرب الاجرامية التي شنها الطرف الأكثر جنوحاً للانفراد والحكم بالغلبة والقهر متحالفاً مع الاسلام السياسي (التجمع اليمني للاصلاح) والقوى القبلية المولعة بالفيد؛ فالأخطاء أياً تكن لا تبرر الحرب التي أغلقت باب التطور السلمي الديمقراطي للبلاد، وأعادتها سيرتها الاولى. أن إغلاق أبواب الحوار والاستفراد بالحكم في بلد متنوع ومتعدد كاليمن إنما يفتح أبواب العودة للاحتراب والفتن الداخلية.
إن حرب صعدة البنت الشرعية والمشؤومة للتعليم الديني المضلل والضار، قد وجدت في الانفراد بالحكم لصالح شخص أو حزب أو قبيلة أو جهة، أرضيتها الخصبة لإعلان التمرد والحرب. وبمقدار ما ندين هذه الفتنة فإننا نرى أن معالجتها بزج الجيش والأمن إنما يعمقها وتزيدها اشتعالاً. فحرب صعدة، التي تدخل شهرها الرابع في تجددها، وعامها الرابع في تناسلها، لا تعالج بالقوة وحدها، بل لا بد من العودة الحميدة إلى روح وطبيعة ال22 من مايو الوحدوية والديمقراطية والتعددية حقاً.
لقد تحققت الوحدة اليمنية، ولكن الفساد والاستبداد، وانتزاع اللقمة الناشفة والكفاف من أفواه غالبية الشعب، ونشر الأمية والجهل والأوبئة، وإلغاء الآخر، هي الخطر الداهم الذي يتهدد البلاد والعباد، ويعد بحروب تبدأ ولا تنتهي.
والفاجع أن القائمين على الأمر لا يحسون ولا يشعرون بمعاناة الملايين في شعب يعيش غالبيته في أدنى مستويات الفقر.
كثيراً ما كرر السيد علي عبدالله صالح أن الشعب فقير ولا يملك غير حرية الرأي والتعبير والقول «فلا يجمع الله بين عسرين»، فلا يمكن أن يجوع ويحرم من حق الاحتجاج والشكاء والبكاء. ومع ذلك فإن المجاعة والافقار والتنكيل وسلب الحرية يتعاظمان مقدار تعاظم الفساد والاستبداد.
لا ينبغي التقليل من أهمية الانجاز العظيم الذي يعتبر بحق من أهم انجازات أمتنا، على ندرتها، في خاتمة القرن العشرين. ولكن المأساة أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد الوحدة وأمنها وسلامها واستقرارها وتطورها، لا يأتي فقط من خارجها أو من أطراف متأخرة ومتربصة، وانما الخطر يتعاضد ويتضافر مع مجمل سياسات الحكم الفارقة في الفساد وإهدار الامكانات الشحيحة والموارد المحدودة. وهو ما يوفر البيئة الحاضنة لكل الفتن والكوارث المحدقة.
وهو ما يجعل الوحدة الوطنية في أسوأ حالاتها في ظل انسداد الافق السياسي، والاحتكام إلى القوة وتغييب الحوار، وحق التداول السلمي للسلطة، في بلد تقوم شرعيته ودستوره وتشريعاته وطبيعته على التنوع والتعدد، ولكنه كممارسة واقعية لا يسمح أو يعطي حق التداول السلمي للسلطة في انتخاب المحافظ، أو مدير الناحية، أو رئيس الجامعة، بل لا يتيح التداول في اتحاد العمال أو النساء أو الطلاب.
معظم الفتن والحروب والتصدع قامت في اليمن عبر التاريخ بسبب انفراد زعيم أو أسرة أو قبيلة أو جهة بالحكم؛ فتركيبة البلاد، وطبيعتها ومناخها، لا تسمح بهذا الاستقرار. كما أن وحداتها عبر التاريخ أيضاً، ورغم الطابع الظاهري للغلبة في جوانب معينة، إلا أن التآلف والتوافق، بل اتحاد عدة قُبُل ومراكز هو ما ميز هذه الوحدات. فبناء سد مارب، كما تشهد النقوش، قد أعيد بفضل التعاون بين قبائل ومناطق عدة، كما أن بناء الحضارة والمدرجات وقوافل التجارة وحمايتها تقتضي التعاون والتوافق وتوزيع الخيرات والأعباء. فحرب صعدة كحرب 94 قد مزقت أواصر الرحم والقربى، وفتحت السبيل أمام الاحتراب.
يقينا فإن الديمقراطية اليمنية المدخولة بالفساد والاستبداد، والمسورة بالقوة وسلطان الغلبة، لن تتيح أي تدخل سلمي في المدى المنظور؛ لذا يتجه الناس إلى المغامرة والعنف واستخدام العملة التي يسوقها النظام نفسه.
وعظات وتجارب التاريخ اليمني تؤكد أن الدولة عندما تفقد هيبتها بسبب الحروب الصغيرة والفتن الداخلية تسقط كالفاكهة في يد جزء من الحكم أو الائتلاف أو الحلفاء الاقوياء، ودولة سبأ ومعين وحمير وبني زياد والنجاحيين والايوبيين، وكتابهم بني رسول، والصليحيين, وتجربة ثورة سبتمبر واكتوبر ليست بالبعيدة.