كي لا نُحبط أكثر مما نحن عليه

كي لا نُحبط أكثر مما نحن عليه - يحيى سعيد السادة

لا أخفي القارئ سراً أني كلما وجدت مسؤولاً يطل من قناتنا الفضائية وبيده مقص المشاريع زاد بحثي في قنوات عربية وأجنبية علِّي أجد مسؤولاً علَّي شاكلة مسؤولينا يفتتح شارعاً أو مدرسة أو مستوصفاً إلا أني لم أوفق في كل المرات؛ فمهما حاولت فهو من باب العبث لا أكثر كون الآخرين يعملون بصمت دون الحاجة للضجيج، وإذا ماأمسكوا يوماً بمقص فإن المرء يجد نفسه وجهاً لوجه أمام مشاريع مختلفة نوعاً وحجماً وتكلفة والتي يطلق عليها بالمشاريع العملاقة، إذ نجد عينات من هذه المشاريع وقد أصبحت معلماً بارزاً من معالم الدولة بل و في بعض الحالات إسماً آخر يدل على هويتها.
 بعض هذه المشاريع تصل تكلفتها، كما هو سد البرازيل، ومطار طوكيو العائم في البحر، ومشروع ناطحات السحاب الإماراتية، إلى أكثر من عشرين مليار دولار للمشروع الواحد. لذا فإن إطلاق العملقة على مشاريع إسفلتية أو إقامة أعمدة إنارة هي من قبيل النكتة أو المداعبة لا أكثر، خاصة عندما لاتصمد تلك الأعمال أمام هبات ريح أو زخات مطر، كما حدث لبعض تلك المشاريع المخصصة لمحافظة إب والتي كلفت خزينة الدولة حوالى أربعة وثمانين مليار ريال هي نصيب أبناء المحافظة بمناسبة احتفائهم بيوم الثاني والعشرين من مايو- العيد السابع عشر للوحدة.
أي ما يقارب أربعمائة وعشرين مليون دولار مساهمة الفرد في هذه المحافظة من هذه المبالغ 42000 ريال، أي ما يساوي 210 دولارات سواء كان هذا المواطن مولوداً أو معتوهاً أو في طريقه إلى العالم الآخر.
لقد ساهم الناس في هذه المبالغ من حيث لا يعلمون بما فيهم نسبة كبيرة ممن يتوقون يومياً للقاء رغيف العيش، لذا فإن الإصرار على افتتاح مشاريع اسفلتية في هذا البلد يتطلب على الأقل مصداقية في ديمومة هذه المشاريع، إذ من العيب أن نفشل في هذا الجانب الذي لا يمثل إلا الحرف الأول من أبجدية العمل الهندسي، فمهما تذرعنا بالأمطار فإن إعصار سونامي الذي ضرب سواحل إندونيسيا محفور في ذاكرتنا إذ عصيت عليه بعض المنشآت رغم سرعته المقدرة ب300 كيلو في الساعة وارتفاعه الذي بدى كالطود لمن تتبع قدومه نحو اليابسة.
المشكلة التي نعاني منها، وستظل ما لم تعالج، تكمن في وضع أشخاص في مسؤوليات لا تتناسب ومستوى تفكيرهم ولا تتطابق ومؤهلاتهم إن وجدت مؤهلات، والمصيبة أن هؤلاء لا يتعايشون بشفافية مع قدراتهم ومستوياتهم التعليمية إذ نجدهم يقررون كل شيء من منطلق أنهم يفهمون ما ظهر في هذا الكوكب وما خفي.
فعندما يعين أناس في إدارة أعمال فنية بحتة بينما لا علاقة لهم بهذا الجانب هو نوع من أنواع الاستهتار. وعندما يكلف آخرون بالإشراف على تنفيذ مخططات وتصاميم هندسية معقدة وهم لا يفقهون شيئاً من ألغاز تلك المخطوطات فهو نوع آخر من أنواع الاستهتار.
لقد تداعى الكثير إلى حلبة الاشراف بمجرد سماعهم أن المبلغ المخصص لهذا الجانب هو 76 مليون ريال؛ لن تكلفهم هذه المهمة سوى وضع برنيطة مهندس على الرأس وترديد جملة كل شيء على ما يرام كلما طلب منه تقرير حول ذلك. هؤلاء الخوارق نجدهم في كل مناسبة إذ يتحول الواحد منهم في لمحة بصر إلى رياضي إذا ما وضعت مخصصات مالية في هذا المجال حتى لو كان هذا الخارق أحدب، ثم نجده من جهابذة الفقه كلما علم بتجمع ديني ورُصد لهذا التجمع مبلغ من المال ثم خبيراً بالكرنفالات نجده كذلك طالماً لا يوجد قيد على مصروفات المهرجان.
 قدرة البعض على التلون وتقمص الأدوار والادعاء بفهم كل شيء هو الذي أوقعنا في كثير من المحظورات. هؤلاء يذكرونني بأحد أقارب الفقيه الذي كنا نتعلم القرآن في معلامته (الكتاتيب) إذ كلما هم الفقيه بالخروج -وكان كثير الانشغال، رحمه الله- نجد قريبه يقفز إلى مكانه طالباً منا كل على انفراد التسميع. كنا نتسابق على غير عادتنا لأنه طيب ولا يغلط أحد مهما قفز الواحد منا فوق كثير من السطور ومهما أخطأ في النطق إذ لا نجد منه سوى جملة: «أفارم عليك». لم ندرك حقيقة أن ذلك المساعد -رحمه الله أيضاً- أمي لا يقرأ ولا يكتب إلا بعد فترة طويلة ونحن على مقاعد الدراسة.
هذا هو وضعنا الحالي مع اختلاف الزمان والمكان. الادعاء بفهم كل شيء يقودنا حتماً إلى دروب موصدة وإلى إحباطات تراكمية تؤلمنا أكثر مما نحن عليه من إيلام؛ إذ لا شفاء من هذا المرض العضال غير تحسس مواقع هؤلاء لمتطفلين والعمل على التقاطهم كطفيليات مؤذية للوطن والمواطن على السواء بحيث لا ننقاد إلى مآسٍ مستقبلية كلها ستظل في حسابات مجهول.