مهمول النقاش.. على هامش منتدى الجاوي

مهمول النقاش.. على هامش منتدى الجاوي - عبدالقوي غالب

«الحق في تبادل اللعب تمكين للنسيان» 
زيدان
تكمن أهمية فكر "ما بعد الحداثة" في إعطاء "الكتابة" أولوية على حساب "الكلام". فهذا الأخير استمر حضوره في نصوص "الحداثة" التي تعاملت مع الكتابة كتابع للكلام. ولم تكسر هذه المعاملة إلا بكتابة "نيتشه" وهو يصوب سهامه صوب كل روح.
تأثير "الكسر" يتضح في كتابة "ما بعد الحداثة"، حيث التأثير تعدى مستوى هيكل النص إلى محتوى النص ذاته. ففي خضم الانفكاك من سلطة الهيكل (إطار النص ونسقه) أصبح الهامش في النص، وتُرك النص دون خاتمة. وللانفكاك من الخطاب ومن حقيقته، فُتح الباب ل "كتابة الزيف". أي أن الكتابة أخرجت الحقيقة من تموضعها، في "الكتابـ"، إلى جعل الكتابة محايثة للحقيقة فقط. هذه المحايثة فتحت السبيل لقدوم عوالم أخرى إلى عالم الكتابة، إن لم يُفتح باب التبادل بين العوالم، التي أصبحت أكثر تداخلاً مما كانت عليه في السابق.
هذا التداخل جعل أمر الاشتغال بالكتابة سهلاً وصعباً في آن معاً، خاصة عند الخوض فيما يجري في "العالم المعاش" من أحداث، وفي ما يثيره من قضايا. فالكتابة، هنا، تتطلب دقة وحذراً أكثر مما تتطلبه الكتابة في حقل آخر، وذلك كون فضاء الكتابة، هنا، مخنوقاً بالخطاب وضرورة الموقف، بينما فضاء الكتابة في حقل آخر، كالرواية، القصة... الخ، مغاير، فالفضاء هنا يفتح لغزارة الكتابة من جانب، ويفتح إمكانية التنصل من الواجب وضرورته، من جانب آخر. في هذا السياق، للغنى الذي تنزع إليه الكتابة، يبدو لخاصية المشتغل، لإبهامه الخاص، أثر حين يقوم بلعبة "حض المزاوجة" بين حقلي كتابة مختلفين. وعندما يقوم الكاتب بذلك، في الكتابة في حقل "المعاش"، فإنه يكون "وكيلاً" وليس ذاتاً.
والوفاء للكتابة يتطلب الاقتراض أحياناً، خاصة أثناء التعليق. وهذا عله واضح في استهلال هذه المقالة؛ فلقد اقترضت من عالم الرياضة (أصبح نجوم الرياضة مع نجوم الفن، يقومون بدور مشابه للدور الذي كان يقوم به مفكرو وكتاب ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، في نقد سياسات متخذة أو في مناصرة حق ما) كي تتمكن السطور من اللعب في المقالة التي تبدو أنها تحت تأثير إيحائية قول نجم كرة القدم "زيدان". فاللعب -حسبه- ليس حقاً بل "تمكين للنسيان". فعند لاعب كرة قدم، السياسة الناجعة، من بين سياسات الذاكرة، ل "مداواة جروح الذاكرة" تكمن في "تبادل الأقنعة".
 وما يجري في صعدة، إذا اعتبرناه يحيل إلى "جروح الذاكرة"، بحاجة مشابهة إلى "تبادل الأقنعة" أثناء تلمس مداواة أفضل في سياسات الذاكرة لجروحها.
فما يجري في صعدة هو إنكاء "لجروح الذاكرة"، لا مداواة لها. حيث ا"لإنكاء" يتم بالفعل، أي بالحرب. هذا "الفعلـ" يغذيه "إذكاء" نقاشات المقايل والمنتديات وعناوين ومقالات الصحافة، التي تختزل مداواة جروح الذاكرة بـ"اجتثاث النظام". فالإذكاء الخطابي هنا ليس فيه اختلاف عن فعل الإنكاء. وهو، بلغة ابن عربي، "لا يعول عليه"، كونه لا يولد فرقاً. بكلام آخر. "الإذكاء" الخطابي يمنع حديثاً يخوض ويوضح تعدد سياسات الذاكرة.
لذلك يتعزز خيار وحيد من بين سياسات الذاكرة، ألا وهو الحرب. وذلك ليس لأن الذاكرة هي من اختار تلك السبيل، ولكن أيضاً لأن الخطاب يقصي معرفة تساعد في اختيار مداواة أفضل لا غير.
فطيلة عمر "الدولة الوطنية" التي لا يزال أثرها إلى اليوم، تَحكِّم الخطاب الأيديولوجي لا على السياسة وحدها بل على المعرفة أيضاً، فالخطاب الأيديولوجي، حسب تعبير محمد أركون، "الجهل لا المعرفة".
أكثر من أسبوعين خلت، في "منتدى الجاوي"، أثناء عرض برنامج مشروع "حزب الرابطة" للإصلاح، تسلل تداعي "جروح الذاكرة" من بين النقاش، ليظهر ويغيب مع خروج المناقشين. ما يهم هنا أن ذاك التسلل ظهر مع حضور السياسيين، سواء من حزب الرابطة أم من أحزاب أخرى. وعندما غاب أيضاً غيَّبه حضورهم أيضاً. أقصد من ذلك أن جروح الذاكرة تُلْعب من قبل الخطاب السياسي الذي يحجب قراءات أخرى. حضور السياسي في عصر تلك الأمسية، يجعل "تداعي جروح الذاكرة" مهملاً ودون تفحص.
وفي سياق هذه المقالة، ليس حزب الرابطة سوى المقصي من الذاكرة، أي ما أقصاه خطابها تحديداً، إن جاز ذلك و"بعزلـ" السياسي عن حزب الرابطة، يصبح هذا الحزب بمثابة شاهد يعين لقراءة تاريخ الذاكرة لا غير. هذا الشاهد (حزب الرابطة) يتقاطع مع عبد الرحمن الجفري في "الشاهد"، حتى وإن كان ابن الضحية، فهو من أقرباء الضحية مثله مثل أقرباء الضحايا الذي يريدون معرفة مصائر أقربائهم المختفين، عبر صحيفة "النداء"، فالكل هنا شهود لا غير.
ما تقوم به صحيفة "النداء"، تُشكر عليه، لأنها تعرفنا على الشاهد أولاً، وثانياً كونها تشتغل بعيداً عن خطاب سياسي ما (إن كانت كذلك طبعاً)، فالخطاب هو ما يفسد حق المعرفة، سواء حق أقرباء الضحية: في طلبهم معرفة الحقيقة، أم حق آخرين في الوصول إلى أرشيف الذاكرة، وإلى سياساتها أيضاً.
abdulkawi_sMail