الرياضة المدرسية في عدن.. قرن من الألق... والانكسارات (2-2)

الرياضة المدرسية في عدن.. قرن من الألق... والانكسارات (2-2) - طلال سفيان

السلام عليكم.. أيتها الأرواح الصاعدة إلى رياض السماء كيما تمسي نجوماً تشع بأنوارها لساكني على دورب الحرية.
تجسد الحركة الرياضية في مدارس عدن، تاريخاً عريقاً لمفاصل جسدية مفعمة رياضياً بأحداث جسام واكبتها الساحة الرياضية المدرسية بأعضائها الهرمونية التي تتشكل من رأس تحرري وعمود صلب لسلسلة إنجاب النجوم اللامعة، وأقدام مهرولة نحو منتصف الملعب الآخر المجهول بهويته الوقائية.
بدأت مدينة عدن منذ عام 1900 تشهد وبصورة ملموسة تدفق سيل الهجرة الأجنبية من الهند والصومال، فازداد عدد السكان ونشطت الحركة التجارية بسبب ظهور المؤسسات الرأسمالية الأجنبية التي شجع الإنجليز وجودها في المنطقة لخدمة أغراضهم السياسية والاقتصادية. ونتيجة لزيادة أفراد الجاليات الأجنبية حرصت سلطة الاستعمار على إنشاء الكثير من المدارس مع التوسع البنياني الذي شهدته عدن في ظل الاستعمار الذي حرص على تقديم الوسائل الترفيهية لأفراد الجاليات الأجنبية من خلال قيامهم بتأسيس أول ناد رياضي عام 1887 أطلق عليه «نادي الفرس» وكانت عضويته مقتصرة على الأجانب وبعض العرب المقربين من الإنجليز الذين شجعوا قيام أندية اجنبية بدءاً من نادي التنس العدني عام 1902، وانتهاءً بأندية البامبوت وطارشان وفتيان الثكنات ونادي الصومال، حيث كانت هذه الأندية الأربعة تتبع الجالية الصومالية. إلى جانب تأسيس الجالية الهندية لنادي النجم الأزرق الذي عاصر إنشاء نادي الترفيه المتحد عام 1910 والذي انشق عن نادي الفرس وفتح باب العضوية أمام المواطنين اليمنيين وبالذات طلاب المدارس الذين لم تتح لهم أي مشاركة رياضية في مدارس المدينة التي اقتصرت ساحاتها المدرسية على ممارسة جنود الإحتلال، وأبناء دول الكومنولث، وبعض العرب المقربين من سلطة الاستعمار، على ممارسة ألعاب الكريكيت وكرة القدم والسباحة والملاكمة وألعاب القوى. ولأنها هذه الألعاب كانت تجرى تحت أنظار الطلاب اليمنيين الذين شعروا بنوع من المهانة جراء سياسة التفرقة، التي تمارس ضدهم وبتشجيع من إدارة الاستعمار الإنجليزي؛ بدأت تختمر فكرة تأسيس ناد كروي أهلي بين صفوف الطلاب اليمنيين والذين سارعوا في تكوين ناد جديد عام 1915 أطلقوا عليه اسم «الاتحاد المحمدي» والذي ازدادت نجوميته لمعاناً وشهرةً بعد أن استطاع تحقيق الانتصارات المتوالية على أقوى فرق جيش الاحتلال وفرق الأساطيل المارة بميناء عدن التي زخرت بمدارس تبشيرية ومعاهد أهلية تميزت بنشاطها الكروي عن المدارس الحكومية، والتي استطاع بعد ذلك الكثير من شبابها أن يشق طريق النجومية إلى ملاعب الكرة وتمكنهم من إثبات وجودهم فيها، الأمر الذي جعل الأندية الأهلية والتي وصلت أعدادها في فترة الأربعينيات إلى أكثر من ثلاثين نادٍ بالإسراع في ضمهم إلى صفوفها.
طلائع التنوير
قدمت المدارس أبطال رياضيون تألقت قبضاتهم على زناد البندقية.
تميز النشاط الرياضي في مدارس عدن خلال فترة الخمسينيات بخصائص رياضية وسياسية واجتماعية، مما جعل هذه الفترة تختلف كلياً عن سابقتها من خلال مواكبتها للحركة الوطنية التي أثرت كثيراً على سير الحركة الرياضية، التي شهدت بوادر انطلاقة ثورية استهدفت تحرير البلاد من الاستعمار عبر حركة كفاح مسلح، لعبت فيه المدارس دوراً مشرفاً تركتها بصمات انتفاضة طلابية، عبرت عما يختزن في نفوس الطلاب من طاقة رياضية ثورية، ظلت حبيسة صدورهم لسنين عدة. اشتعلت بعدها النيران من أقدام رياضي وحدوي وتربوي نضالي اسمه محمد عبده نعمان الحكيمي المدرس في المعهد الفني بعدن في فترة الخمسينيات التي جسد فيها الأستاذ نجومية لامعة وهو يقود منتخب المعهد الفني مدرباً في لعبة كرة القدم التي برع فيها في خط دفاع نادي شباب التواهي، الذي تحمل رئاسته، وسخر شبابه وساحته لاحتضان النشاطات الطلابية والنقابية. إلى جانب قيامه بجعل مقر النادي منطلقاً لممارسة النشاط السياسي ومنتدى ثقافياً وتحررياً في وجه الاستعمار الانجليزي، الذي قام عام 1956 باعتقال هذا المحارب الطليعي والرياضي التربوي إلى الطرف الآخر من وطنه.
وعلى طليعة السالكين تروى قصة أول شهيد رياضي قدمت دماءه من ملاعب كرة القدم داخل ثانوية كريتر، تجسدت فيه كل معاني التضحية والفداء إنه محمد علي الحبيشي الذي سيظل يوم الخميس 4 ديسمبر 1964 تاريخ استشهاد خالد في صفحات الأبطال وفي سجل شهداء الاستقلال الذي من أجله كان الشهيد متلهفاً لخوض معركة لطالما رسم خطة إنجاحها في تدمير آلية العدو قبل أن يسقط مضرجاً بدمائه الزكية.
وعلى الطرف الآخر للمدينة التحق شاب يافع قدم من جبال شرعب إلى إعدادية الشيخ عثمان التي بزغت فيها المواهب الرياضية في ألعاب القوى لمهيوب علي غالب (عبود) والتي كانت فيها لعبة المدرسة إيذاناً بمسيرة كفاح مسلح ضد المستعمر وأذياله، أنطلقت شرارتها مع أحداث فبراير 1967 التي شهدت فيها عدن العديد من الإضرابات والمسيرات الشعبية والمعارك الدموية بمناسبة ذكرى تأسيس اتحاد الجنوب العربي الاستعماري في الحادي عشر من فبراير، سقط خلالها الشهيد (عبود) التي حملت مدرسته بعد ذلك اسمه تكريماً وتخليداً لبطولته وذكراه العطرة.
وعلى المسيرة النضالية ذاتها كانت أحداث 1967 لطرد المستعمر تبرز على ساحتها شابة رياضية قادمة من المضمار المدرسي، كانت بذرتها الأولى مشاعل مجد تربوي تقوده الأستاذة «صفية حُميدان» معلمة ورياضية قديرة في كلية البنات بالشيخ عثمان المدرسة التي قدمت نموذجاً كفاحياً من نوع آخر تمثل بنجمة كرة الطائرة المدرسية فوزية جعفر التي رافقت دروب رفيقات قدمن من الملاعب المدرسية التي انجبت كرامة مجسدة ببطولات نضالية في العمليات المسلحة للتحرر من الاستعمار وإجباره على شد عصا الرحيل من المدينة برموز وقوالب رياضية مثلتها كل من: نجوى مكاوي وشفيقة مرشد, وعائدة علي سعيد, وفتحية باسنيد, وثريا منقوش, وأنيسة الصائغ, ورضية إحسان الله.
أجندة جنوبية
مرت الرياضة في مدارس عدن بأحداث جسام قبل أن تنجرف طواعية إلي قعر بحيرة الوحدة غريقة وهي تحاول التلعق بقشة.
واكبت الألعاب الرياضية داخل مدارس مدينة عدن العديد من الأحداث الوطنية. وكما مثل القبطان هينس عام 1839 بداية الاستعمار السياسي، فقد مثل برنارد رايلي الحاكم العام لعدن والمحميات سابقاً، بداية الاستعمار الرياضي منذ لحظة التشكيل الاداري للجمعية الرياضية العدنية المكونة من عناصر أجنبية تعمل تحت قيادة حاكم عدن، الذي قام عام 1934 بتأسيس هذه المنظمة الرياضية الاستعمارية الشاملة بعضويتها للمدارس المعترف بها ضمن قوانين وأسس بمرتكزات واهية شكل ضدها طلاب المدارس جبهة رفض استهدفت هذا الكيان الرياضي الاستعماري الذي سقط عام 1967.
كما واكبت الانشطة الرياضية المدرسية منذ الستينيات أحداثاً وطنية كانت أبرزها على الإطلاق اندلاع ثورة 14 أكتوبر المسلحة عام 1963، هذه الثورة التي جاءت في وقت كان فيه شباب المدارس قد مروا في الخمسينيات بأحداث وطنية عمقت فيهم جذور الحس الثوري فازداد حماسهم لقضية تحرير البلاد. عاشت الأنشطة الرياضية المدرسية على أثرها أيام ملتهبة بنار الثورة المسلحة، تعرضت فيها الرياضة المدرسية للجمود، بل والتوقف التام لأنشطتها منذ ابريل حتى 20 يونيو 1967 التي أنهت الوجود البريطاني وركائزه بعد لحمة شباب المدارس والثوار في السيطرة على مدينة كريتر لمدة 14 يوماً استطاعوا من خلالها أن يحطموا ما يسمى بـ«اتحاد الجنوب العربي» الذي تهاوى صنائعه من السلاطين والأمراء المستوزرين بسلطة الاستعمار الذي رحل في فجر 30 نوفمبر 1967، انتقلت بعدها الرياضة المدرسة إلى عهدة نظام وطني احتواها ضمن المجلس الاعلى للرياضة، الذي تشكل عام 1973، لتسير بعده الرياضة في مدارس عدن مزهوة الخطى بإنجابها لأجيال رياضية ذهبية، قبل أن تتعثر بأحداث يناير 1986 الدموية في عدها التنازلي لرياضة مدارس انجرفت بعد ذلك الحدث بأربع سنوات نحو وحدة فصلت أجزاء الرياضة المدرسية داخل مدينة عاودت تكرار مشهد مأساوي في صيف 1994 لفظت بعده أنفاسها الأخيرة حتى وقتنا الحاضر، فتتذكره أجيالها الذهبية بهمسات خافتة غابت في غور النسيان بالنسبة للأجيال الحديثة.