في وداع الفنان الحارثي: إستمرار لإيقاع راقص يتردد صداه فينا

الفنان محمد حمود الحارثي
الفنان محمد حمود الحارثي (أرشيف تلفزيون عدن)

أعترف أن غناءه بدا لي غير جذاب؛ ربما لأني تعودت الاستماع إلى الأغاني الشمالية، على اختلافها، بأداء فنانين جنوبيين ولسنوات طويلة، منهم: المسلمي والجراش والقعطبي والعنتري وفضل اللحجي وعمر غابة والماس... وهؤلاء أداؤهم طليق واضح، ويمنحك إيقاعه فرصة للتلقي، لأنه ينتقل من حركة إلى أخرى بسلاسة.
كان اللقاء الأول مصادفة في مقيل في «الدار الحجر» في الوادي (صيف 1978)، على شرف مشاركين من الجزيرة والخليج، جاءوا للمشاركة في ندوة عن البحث ومراكزهفيهما. فإذا بي أسمع أداءً هادئاً ينساب كأنه استمرار لإيقاع راقص يتردد صداه فينا. ذكرني الفرق بين الاستماع الحي وذلك الذي يقذفه مايكرفون الاذاعة، الفرق بين السينما والمسرح، حيث الحضور كون أساسي من مكونات التلقي، وفي المسرح والغناء يكون عبق الأداء حيا وفاعلاً ويذهب رأساً إلى الاحساسات والمشاعر. منذ ذلك تغيرت علاقتي بفن الراحل الحارثي.
وتنبهت بعد ذلك إلى أدائه المتميز لأغان معروفة، بل مشهورة في اللون الصنعاني. فهو كما يقول الزميل لامبير من مدرسة أخرى.
وبعد ذلك وبالمصادفة المحض التقيت به عدة مرات في منزل الصديق هشام الزعيم، الذي كان يعمل في مكتب دولي في صنعاء، وهو من عشاق الغناء العربي التقليدي، ولا سيما مدرسة حلب. وكان الحارثي يدرس ابني زوجته «كارمن» العزف على العود، وفي كل لقاء معه يتجدد ذلك الحضور الجميل الذي كان فاتحة تعارفنا في صيف العام 1978، ويحضر فيه الأدب والذوق ومسحة هدوء مدهشة يمكن وصفها بأنها بصمة الروح، فهي جزء منير في ثقافة الجسد والسلوك.
يبدو لي أنه كان يقدم فناً مصقولاً متأثراً بألوان تركية وفارسية وهندية حاضرة في كل الغناء العربي، بعد انطلاقه من الحجاز ومن المدينة، فدمشق، تسربت إلى الموروث اليمني عبر القرون والمثاقفة والاشتراك في إحساس بالعالم متقارب، إن لم يكن في كثير من جوانبه واحداً، وهذا بعد أن أهملناه، نحن العرب، تحت ثقل تغليب السياسي على الثقافي واللحظة التاريخية على التاريخ. وفي الوقت نفسه في أدائه سمات من المأثور الشعبي (الفولكلور) دون أن يقذف به خارج دائرة الإبداع الفردي، الذي يبدأ معه وجود الفنان. تحمسه للمشاركة بالأغنية الوطنية في السياق السياسي الجديد، جزء من إرادته العصرية التي كانت قوية، عند من كانوا يعرفون بالعصريين في عهد الإمامة. ومن حسن الحظ أن لامبير يحتفظ بتسجيلات عديدة للراحل، وهو بحكم تخصصه وتحسمه يعرف كيف يعتني بها. أذهشني وأفرحني أن الصحافي الشاب فتحي أبو النصر كتب كلمات جميلة عن الرجل وفنه. ورغم أنها بضعة سطور إلا أنها أكدت أن الراحل كان محبوباً بين ممثلي غير جيل من اليمنيين. وهذا يعني أن الفن الجميل حي في النفوس والذاكرة، وأنه لذا يمكن البناء عليه ومضاعفة الفرح الذي نمني أنفسنا بوساطته... سلاماً ووداعاً محمد الحارثي.
14/7/2007

***

موت الشهيد هزاع المحمدي

قصيدة كتبها الزميل سلطان الصريمي، ونعي نشرته الوزارة التي يعمل فيها، بعد خبر مصرعه في الصحافة، ومقال غاضب وحزين نشره الزميل عبدالله الدهمشي. هذا كل الصدى الذي تردد في الحياة العامة. ربما لأن الموت ليس حدثاً فاجعاً في أية صورة في هذه البلاد التي يبدو فيها الموت حدثاً عادياً. مع أنه ليس كذلك البتة؛ فهو أكثر الأشياء واقعية، وأقلها حظاً من التصديق. أما عندما يكون قتلاً معلناً وفعلاً علنياً يصل حد الزهو بإنزاله على الخصم، فإنه في سياق نفسي وعقلي سوي، كان لا بد أن يثير الاستنكار والتأمل. ولكن من فرط تكرار هذا اللون من القتل، أصبح الناس يتصورون أن من يقوم به يعيش داخل «ثقافة الحصانة». قتل المحمدي، ثم مرت سيارة على جثمانه، للتمثيل به. هذا الإمعان في القتل همجية لا نظير لها، إلا عندما يكون القتلة واثقين من أن يد العدل لن تطالهم. وكما حدث في مقتل اليريمي والحبيشي، أطلت الوساطة القبلية برأسها لتقترح تسوية في دائرة نفوذها، وتساندها وساطة عسكرية، فاكتملت دائرة نفي القانون والتعامل المدني مع جريمة جسيمة، أودت بحياة مواطن أصر على شرف مهنته، فرفض المشاركة في سندات وصكوك مزورة لها علاقة بالمنطقة الحرة.
ولم نعد نسمع شيئاً عن الحادث. وبعد أيام فقد الزميل عبده جحيش إبنه. ولجأ القاتل إلى شيخ في بكيل: عبدالله دارس، فأصبح، وفقاً لعرف القبيلة، «ربيعاً» ولا يهم أنه قاتل، إنه في دائرة القانون الواقعي كما قال آل العواضي، الذين دارت معاركهم مع خصومهم في دائرة القصر الرئاسي بضع ساعات قبل أشهر.
أصبحت المدن، بما فيها صنعاء التي كانت خارج ساحات تصفية الثأرات، بدولة القبيلة ومضاربها، وهذه لا تحترم في العمق إلا أعرافها، ولذا فهي شبه دولة، لأن من شروط الدولة سريان مبدأ صوري عام، لا علاقة له بالامتيازات والمراتب الاجتماعية. وعندما يسود العرف، وهو نقيض المبدأ الصوري، تضمحل -حتى الاختفاء- سيادة القانون.
ويكون صرعى غيابه «قانون» هجين، معجون بالعنف والرشوة والوساطة والكذب#. ونسمع عن علي موسى البيضاني، سجين في السجن المركزي، قضى 37 عاماً، وغيره مئات كشف مآسيها الصحفي علي الضبيبي في «النداء»، في لون مشرق وشجاع من الصحافة التي يرسي قواعدها شبان وشابات، يمثلون الحديث في حياتنا. ولذا يلاحقهم اليمن القديم والتقليدي، لأن الحديث لم يغير في العمق ولا يزال «الميت يمسك بتلابيب الحي» والديمقراطية كلمة رثة في ترسانة القول الرسمي.
الصحافة قبل الهشة، المبدعة، عليها متابعة حادث الشهيد المحمدي. كان يقوم بواجبه فقتل. المتابعة جزء من القضية هام وخطر، لأنها تقاوم النسيان، وهو بداية ضياع الحق والحقيقة. المتابعة الدؤوب جزء من العمل على سيادة القانون. ومواجهة للقوى التي تطرد فكرة القانون من حياتنا كل يوم.
15/7/2007
* صرح محامي أولياء الدم أن الاستئناف بشمال العاصمة قد حول التهمة، الموجهة إلى اثنين من الجناة، من القتل العمد إلى الإيذاء، مخالفاً لقرار الاتهام الصادر عن النيابة الابتدائية.
«الثوري»197/2007

***

صناعة الكذب

الدولة الأمنية تخاف نشر الخبر أكثر من التعليق عليه. فالأول واقع صلب، والثاني يمكن المجادلة فيه. ولذا فقد غضب رئيس الجمهورية قبل سنوات من صحيفة «الأيام» العدنية، في ما عرف بحادثة المكلا المشهورة، رغم أن ما نشرته الصحيفة كان خبراً مولقاً من مراسلها. ورأي الرئيس في النشر تعبير دقيق عن الخوف من الخبر، بما هو خبر. فلولا نشر الخبر ما ثار جمهور المكلا. إذاً فالصحيفة هي السبب في ثورة الجمهور، وهذا كسر لعنق الحقيقة؛ فالسبب هو الحدث/ الجريمة. وعدم نشر الخبر تواطؤ بالصمت مع المجرمين، وتخل عن رسالة الصحافة. وهذا يؤكد أن ذروة الرقابة هي الحكم بالإعدام على الصحافي.
وهذا يفسر استنفار السلطة كل امكانياتها في 7/7/2007، لتغطية الاعتصام الكبير في ساحة الحرية بخور مكسر. والتغطية هنا مستخدمة بالدلالة نفسها التي جعلها الراحل إدوارد سعيد لعنوان كتابه «تغطية الاسلام»، الذي فضح فيه باقتدار جميل صورة الاسلام في الصحافة الامريكية، فهي قائمة على الكراهية والعنصرية والعدوان.
أطل علينا من شاشة «الجزيرة» «المتلعثم الرسمي» بخطبة في مدح الوحدة بالدم لا يفوق ركاكتها إلا تهافت محتواها، فزاد الحماس التوراتي لشم قتار اللحم والدم المحترق، صدأ على صدأ. جاء المتحدث، «وكلامه من الأرشيف» كما قال الزميل جمال جبران، في مناسبة سابقة. وأضيف أن الأرشيف كان في دهليز شديد الرطوبة.
كسبت المذيعة المحاورة الجولة، لأن المتحدث ظهر ليلقي بياناً لم يحفظه جيداً، فتذكر الجمهور اليمني حكاية الجدة سعيدة، التي حياها حفيدها: سلام يا جدة، فأجابته: يا ابني طلقني سعيد. ورغم أن الاجابة خارج السؤال تستحق درجة الصفر، إلا أنها في مثل هذه الحال تقوم بدور مساعد بترويج الكذب، إذ أن الكلام كله على بكرة أبيه يتحدث عن طلاق الجدة سعيدة، بدلاً من الحديث عن إطلاق الرصاص على المعتصمين العزل في ساحة الحرية في صباح 7/7/2007، ولكن التغييب شبه الكامل للحديث جاء في حديث مراسل «الجزيرة» في إحدى نشرات المساء، فظهرت صورته وحدها على الشاشة، فتخلت الشاشة بذلك عن الحديث بالصور واصبحت إذاعة. ومن الواضح أن السلطة لم تسمح بإرسال الصورة، إذ كنت بالأمس في ساحة الحرية على بعد بضعة أمتار من كاميرا مصور «الجزيرة» الذي صور الساحة من غير زاوية وتحدث إليه غير مواطن. أرجح أن المراسل منع، لأن غير صحيفة أشعرت، من قبل متحدثين رسميين باسم الرئاسة، بألا تنشر أية صورة. وإن نشرت خبراً، ففي زاوية، وباختصار شديد. كما أن حديث المراسل كان مختصراً، ولم ينجح في تقديم صورة أقرب إلى الحدث الكبير ودلالته. ويصدق في حاله ما قاله تشرشل مرة عن (بي. بي. سي): «إنها إذاعة لا تكذب، ولكنها لا تقول الحقيقة».
8/8/2007