عودة الدب الضال

عودة الدب الضال - فضل علي مبارك

إلتقت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي أطلقها مؤخراً، مع دواعي زيارته الشرق أوسطة، في إثارة حفيظة الادارة الامريكية وحلفائها، التي لم يكن توقعها في أعلى درجات التشاؤم أن يبلغ حدود الموقف الروسي تصريحات الاستنكار والادانة؛ إعتقاداً منها أنها قد استطاعت ترويض «الدب» الروسي وحشره في قفص محكم الإغلاق ليس بمقدوره الخروج منه، وأن فعله لن يتعدى الزئير من بين سياج هذا القفص.
لكن وفقاً لقاعدة منطق الاشياء فإن الشيء إذا زاد عن حده إنقلب ضده، أو أن كثر الضغط يولد انفجاراً، لذلك فقد أسهمت إدارة الرئيس الامريكي جورج بوش في الدفع بـ«فاعلية» كبيرة جداً لـ«ثورة» الدب وتحطيمه لسياج هذا القفص والخروج منه للعب دور مطلوب منهم. في ظل ضرورة دعتها إليه وفرضتها معطيات الراهن الدولي بما وصلت إليه أحادية النظام العالمي الجديد الذي أخذ يمشي على عكاز، وعكاز مكسور. ولذلك جاءت تصريحات الرئيس بوتين بما حملت من تفنيد للأمور والتي رأى البعض أنها هجوم شديد على السياسة الامريكية وانتقاد لاذع وغيره من التوصيفات. وهي في الاساس لا تعدو أن وضعت النقاط على الحروف من خلال تحليل عميق للموقف الامريكي الذي يريد تسيير العالم كله، «على مزاجه»، ودون مراعاة لأية ضوابط أو اعتبارات أو اعطاء ولو (فتات) للآخرين، وقد كانوا إلى وقت قريب يناصفونه الكعكعة.
ومع ذلك فإن السياسة الأمريكية قد عجزت وحصدت فشلاً ذريعاً حيثما ولت واتجهت من أفغانستان إلى الصومال إلى العراق، ولا داعي لذكر موقفها ودورها المنحاز في القضية الفلسطينية. ولو أن تلك السياسة قد أحدثت ولو نجاحاً يسيراً واستطاع العالم ان يجني منها ولو ثمرة غير ناضجة، المهم انها ثمرة، لما تعرض هذا الموقف للانتقاد بل والرفض والتصدي له واحياناً البصق من أقرب الحلفاء، ولما تجرأت روسيا بأن وجدت لها منفذاً من خلاله تستطيع الدخول وإعادة إحياء دورها الذي أفلت زمامه من يدها بفعل مؤامرة التقت فيها اطراف داخلية وخارجية أدت إلى تفكيك عقد الاتحاد السوفييتي الذي كان يشكل توازناً دولياً ورادعاً لتطلعات ما كان يسمى بالمعسكر الامبريالي.. وبالتالي تستطيع روسيا -باعتبارها الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي -إحداث تأثير في مفاعل منظومة النظام الدولي الراهن، يقود إلى إيجاد تغيير في واقع الحال الذي فرض في ليل أظلم، حيث وان ما اسفرت عنه التحولات الدولية منذ انتهاء الحرب البادرة قد أفرز معطيات غير سوية ولا متوازنة، الأمر الذي يتطلب إعادة توازن ليس بالضرورة ان يكون بذات الصيغة والأهداف والرؤى والافكار التي كان عليها آنذاك، حيث ولكل وقت أذان ولا شك ان التطورات قد أفرزت ارهاصات غير محدودة لبلورة نمط جديد من التعاطي والتحالف يتولد على إثره شكل آخر لمنظومة توازن في ضوء نتاج المصالح.
والمتابع لمجريات الاحتقان الدولي يلحظ أن ما وصلت إليه الأوضاع لم يأت من فراغ، بل جاء جراء سياسة التهور والعشوائية التي تنتهجها منذ نحو عقدين من الزمان، الادارة الامريكية، التي ساعدت على بروز ونمو العداء الشعبي والكراهية لكل ما له صلة بامريكا، والتوجس والحذر الرسمي بعد ان خذلهم بريق الوعود التي غدت سراباً من نعيم العيش والحرية والاقتصاد المفتوح و... و... و...، وأنطلقت في مقابل ذلك حالة التأسي والترحم على تلك الأيام التي كان فيها الخصمان ندين لا يتعدى أحدهما على حدود الآخر، ما أنتج حالة صراع سعى كل طرف تحت ظلالها إلى البحث عن أفضل الوسائل والسبل لكسب الحلفاء وتوفير لهم مناخات من الاستقرار المعيشي والأمني وفق ما تقتضيه مصلحة الزمان والمكان.
وقد كان بمقدور «الكرملين» استغلال حالة الاخفاق في السياسة الامريكية، لكن موسكو كانت طوال تلك المدة تتحاشى الدخول في صدام أو صراع من نوع جديد مع واشنطن، قبل نضوج الظروف الموضوعية والذاتية، وظلت روسيا تهيئ موقفها ودورها على نار هادئة لتقوى بالتالي - من خلاله- على تحقيق هدفها في إعادة الدب الروسي إلى الحلبة.. وها هي تبدو حالة الإحماء «التسخين» قد بدأت وبانتظار جولات النزال.