جنوب السودان يسحق الطغيان

جنوب السودان يسحق الطغيان

*صلاح السقلدي
مليونا شهيد وضعف هذا العدد من الجرحى والمهجرين والمفقودين؛ هي الضريبة التي تحتم على شعب الجنوب في السودان دفعها على مذبح الحرية والانعتاق من ربقة ظلم وهيمنة الشمال المستبد الذي لم يرَ في الجنوب أكثر من قطعان عبيد يعيشون فوق بحيرات نفط زاخرة وبواد خصاب...
في أول يوم من عملية الاستفتاء التاريخي الذي سيحدد مستقبل الجنوب، أذهل الجنوبيون العالم من الدرجة العالية من التنظيم والتعاطي الراقي في سير العملية بحضور الآلاف من المراقبين الدوليين والمحليين، مما يبشر بقدوم دولة قابلة للبقاء والديمومة في محيطٍ متلاطم من الفوضى والصراعات.
الإعلام العربي الرسمي وسدنته من الأبواق التي تدور في فلكه وقد تملكهم الصرع واستبد بهم الهذيان، لم يجدوا ما يقولونه إزاء هذه التطورات في السودان غير لطم الخدود وسكب دموع التماسيح على ما يسميها زيفا بوحدة السودان، متسلحا بسلاحٍ صدِئ تقادم على استخدامه الزمن، أسموه "مؤامرة خارجية"، فمن غير أمريكا زرع الطغاة بأرضنا؟ ومن غيرها ينسج برود المؤامرات؟
وهذا الإعلام ومن لف لفه يعرفون قبل غيرهم أنه إن كان لمن يسميه هذا الإعلام "بالدوائر الصهيونية والأميركية" مصلحة بالسودان وغير السودان، فلن تجد هذه الدوائر خير من يحمي مصالحها أكثر من هذه الأنظمة المربوطة بأرجلها إلى بوابة "البيت الأبيض"، والذي لا يفوت حكام هذه الأنظمة عاما واحدا دون أن يحجوا إلى ذلك البيت (الأنيق) قبل حتى أن يحجوا إلى بيت الله (العتيق)، لأداء مناسك الخنوع وفرائض المذلة، لقاء ضمان حماية كرسي حكمهم القائم على أكوام جثث الأبرياء.
إن إرادة الشعوب لا تعرف مسميات الثوابت والخطوط الحمر والزرق والصفر المعششة في عقول قوى الاستبداد من ديناصورات الحكم العربي، فهذه الشعوب وحدها صانعة التاريخ، مهما كبرت ضريبة نضالها وتوسعت جراحاتها، إلا أنها، وجنوب السودان خير دليل، لابد لها أن تستنشق نسيم الحرية والانعتاق، ومن الاستحالة البقاء تحت نير هيمنة قوى الاستعمار حتى إن تدثر بأردية الوحدة والدين والقومية والوطنية.
مهما أمعن الحاكم الظالم في إغلاق نوافذ وشقوق الحرية على شعبه، وظن ظنه البائس أن بمقدوره أن يعمل على خديعة العالم بحقيقة الوضع المزري لشعبه، فلا بد لهذا الشعب أن يمزق الشرنقة ويبصق بوجه الحاكم الظالم وعصابته الفاسدة. ومن يود أن ينظر إلى صورة جلية لما نقوله فما عليه إلا أن ينظر إلى الشعب التونسي كيف انطلق من عقاله وتفجر بوجه الظالم غضبا وزلزالا جعل فرائصه وفرائص معاونيه المفسدين ترتعد خوفا وهلعا من صرخة الشعب الغضوب.
في الجزائر (البلد الغني والشعب الفقير) لا تختلف الصورة كثيرا بوجه ظالم عربي دأب على نهب ثروات البلد، وتحويلها إلى حسابات بنكية لعصابته المسنود عليها، وجعل الشعب الجزائري في حالة عوز وفقر مهين، وهو الشعب الذي يدب فوق أرض تمور بالنفط والغاز الطبيعي.
أما هنا في "جنوبنا الجريح"، فأدعكم تحكمون على المشهد بأنفسكم بشرط أن تكون قراءة الواقع قراءة صحيحة وخالية من بهارات التضليل وتوابل التزييف، منذ ظهيرة ال7 من يوليو 94 وحتى اليوم.
ونقدم في الخاتمة لطغاة العالم هذه الأبيات اللاذعة من شعر الشاعر العربي الثائر أبو القاسم الشابي:
"ألا أيها الظَّالمُ المستبدُ × حَبيبَ الظَّلامِ، عَدوَّ الحياهْ
سَخَرْتَ بأنّاتِ شَعْبٍ ضَعيفٍ × وكفُّكَ مخضوبةٌ من دِماهُ
وَسِرْتَ تُشَوِّه سِحْرَ الوجودِ × وتبذرُ شوكَ الأسى في رُباهُ
حذارِ فتحت الرّمادِ اللهيبُ × ومَن يَبْذُرِ الشَّوكَ يَجْنِ الجراحْ
تأمل هنالِكَ أنّى حَصَدْتَ × رؤوسَ الورى، وزهورَ الأمَلْ
ورَوَيت بالدَّم قَلْبَ التُّرابِ × وأشْربتَه الدَّمعَ، حتَّى ثَمِلْ
سيجرفُكَ السيلُ، سيلُ الدماء × ويأكلُك العاصفُ المشتعِلْ"
(الحرية للمعتقلين)