إجابةً على هذا السؤال أحرقتْ كتب، أُدين كتّابٌ وأُحرق مفكرون واستغرقت الإجابة عليه قروناً!

إجابةً على هذا السؤال أحرقتْ كتب، أُدين كتّابٌ وأُحرق مفكرون واستغرقت الإجابة عليه قروناً!

*محمد عبده العبسي
الرأي الأول: استعراض الشريط من بدايته
هل الأرض كروية؟
هل تدور الأرض حول الشمس أم العكس؟
لا أعرف، على وجه الدقة، كم عُمر هذين السؤالين. لكن من المرجح تاريخياً أن الإنسان الأول حاول، بإمكانيات بدائية، وبالعين المجردة أيضاً، الإجابة عليهما عبر النظر ليلاً إلى السماء المليئة بالنجوم، وإعمال الفكر.
إجابةً على هذين السؤالين لا بد من الذهاب إلى
*محمد عبده العبسي
الرأي الأول: استعراض الشريط من بدايته
هل الأرض كروية؟
هل تدور الأرض حول الشمس أم العكس؟
لا أعرف، على وجه الدقة، كم عُمر هذين السؤالين. لكن من المرجح تاريخياً أن الإنسان الأول حاول، بإمكانيات بدائية، وبالعين المجردة أيضاً، الإجابة عليهما عبر النظر ليلاً إلى السماء المليئة بالنجوم، وإعمال الفكر.
إجابةً على هذين السؤالين لا بد من الذهاب إلى أثينا. من غير الممكن فهم ظروف وملابسات محنة علماء أوروبا، في عصر النهضة، وما ترتب عليها من محاكمات للعلماء القائلين بدوران الأرض حول الشمس، من دون العودة إلى أثينا وفلاسفتها قبل أكثر من ألفي عام.
إن القول بكروية الأرض أقدم بكثير مما يتصور معظم الناس. ذلك أن كروية الأرض، سؤالاً وإجابةً، وحركةً وسكوناً، شغلت قبل جاليليو وبرونو وكوبرنيكوس وابن حزم وابن تيمية، فلاسفة الأنوار في أثينا. كانت أثينا متقدمة في علوم الطب والرياضيات والفلك، وأرسطو، بامتياز، أحد معلميها الكبار. كان أرسطو (340 ق.م) على قناعة كاملة، تستند على البرهانين العقلي والنظري، بكروية الأرض. يبدو الأمر مشوقاً للغاية. فأن يتوصل شخص إلى هذا الرأي، قبل ميلاد المسيح بأكثر من 3 قرون، وبكيفية تقترب من الأسلوب العلمي الحديث في الرصد والتحليل، لهو، بالتأكيد، شخص ملهم حقاً وسابق لعصره.
يورد أرسطو، بعبقرية فذة، حُججاً وأدلةً قوية تؤكد كروية الأرض في كتابه "السماوات" (On the Heavens). كان ينبغي على علماء أوروبا، في العصور الوسطى، العودة إلى هذا الكتاب. ذلك أنه أقوى حُججاً من حجتهم السطحية البائسة: "لو كانت الأرض كرويةً لانسكبتْ مياه البحار". وقد كان الكتاب، على الأرجح، متاحاً وفي متناول أيديهم. لكن يبدو أن للزمن، كما سبق وقلت، وصايةً قاهرة على الحقيقة ومصادرها. لذلك غيّب رأي أرسطو الصائب وساد لقرون رأي المتأخرين الخاطئ حول سكون الأرض.
يقدم أرسطو، ابتداءً، تفسيراً علمياً عميقاً لظاهرة خسوف القمر. "إن سبب خسوف القمر هو وجود الأرض، في المنتصف، بين القمر والشمس". وبالتالي فإن الأرض تطبع ظلها على القمر مسببةً الخسوف. لقد لاحظ أرسطو، من دون تلسكوب وبالعين المجردة، أن ظل الأرض المنطبع على القمر دائماً يكون دائرياً وليس بيضاوياً أو مسطحاً سواءً كانت أشعة الشمس عموديةً على الأرض أو على مستواها. ومن غير الممكن، حد أرسطو، تفسير هذا إلا بكون الأرض كرة دائرية. فلو كانت الأرض مسطحة لكان خيالها مطولاً وإهليلجياً"(11).
عدا ذلك، وإضافةً له، كان لدى اليونانيين في زمن أرسطو وقبله حجج أخرى تؤكد كروية الأرض. إن رؤية نجم القطب الشمالي، في المناطق الشمالية، أقل ارتفاعاً وأقرب إلى الناظر منه في المناطق الجنوبية، لهي دليل آخر على استدارة الأرض. كما أن لديهم حُجةً ملاحية. ذلك أن رؤية شراع السفينة أولاً ثم رؤية هيكلها بعد ذلك، لهو برهان إضافي. والصورة المرفقة من كتاب د. ستيفن هوكينج، أحد أشهر فيزيائيي العصر الحديث، توضح ذلك بصرياً.
كان هذا سبقاً علمياً بامتياز استغرق إثباته، كحقيقة مسلّم بصحتها، أكثر من 1600 عام. لقد كان أرسطو محقاً في الاعتقاد بكروية الأرض، لكنه، كأي مفكر رائي، أصاب في واحدة وأخطأ في أخرى. كان محقاً في كروية الأرض ومخطئاً في سكونها. ذلك أنه اعتقد خطأً "أن الأرض مستقرة وساكنة في حين أن الشمس والقمر والكواكب والنجوم تتحرك فِي مدارات دائرية حولها". وذلك يعود "إلى أسباب دينية تجعل الأرض في مركز العالم وتنظر إلى الحركة الدائرية بوصفها حركة تامة ومثالية"(12).
الأرض كروية
بل إن الأرض، عند أرسطو، مركز الكون، هي الساكنة وبقية الكواكب تدور حولها. أفضت هذه النتيجة إلى نتيجة أخرى ملازمة لها ومتفرعة عنها: تقع الأرض في مركز المجموعة الشمسية، ويقع الإنسان، كنتيجة ثانية، في مركز الخليقة. كلاهما، الأرض والإنسان، مركزيان في الكون وبمثابة حجر الزاوية. تحمس بطليموس، في القرن الثاني ميلادي، للفكرة الأرسطية حماساً شديدا، متجاهلا ما قاله أفلاطون وفيثاغورث، وهو الصواب بعينه: "الأرض هي من يدور حول الشمس وليس العكس" (13). ومن هنا بدأت المحنة.
هل يوجد بشر في كوكب غير الأرض؟
أول من قال بدوران الأرض حول الشمس كان إنكزاغوراس. الفيلسوف الذي أحرقت أثينا، في القرن الرابع ق.م، كتبه ونفته. لقد "اقتنع بهذا الرأي كوبرنيكوس بعد دراسته لتراث هذا الفيلسوف أثناء إقامته في إيطاليا"(14).
يعني هذا الرأي -وهو المثبت علمياً اليوم- في أحد وجوهه، أن الأرض ليست مركز المجرة، وبالتالي فإن الله لم يضع الإنسان، وهو المخلوق الأعلى رتبة، في مركز كونه. حدث عرضي. مجرد طاقة كهذه المنتشرة في سائر أرجاء الكون! هذا أحد أسباب سخط الكنيسة على العلماء والفلكيين، وغلظتها عليهم.
وبما إن الإنسان ليس في مركز المجرة، فمن المحتمل، بل والمرجح، أن يكون هناك في هذا الكون الشاسع من هو أعلى منه ذكاء وأكثر تطوراً. حتى إن بعض الأساطير القديمة والكتب الباطنية -ككتاب العزيف مثلاً- تزعم أن "النسل البشري امتداد لنسل آخر سكن كوكب الأرض قبل البشر من غزاة الفضاء الذين قاموا، وفق الأساطير القديمة، ببناء أهرامات مصر وتشييد سور الصين كعلامات إرشادية يستعينون بها عند الهبوط إلى الأرض"(15). إن هذه الاستنتاجات تتعارض مع النظرة الدينية للإنسان كمخلوق يحتل الصدارة بين سائر الكائنات الحية. لهذا السبب أُحيل رأي إنكزاغوراس إلى الهامش.
إن القول بلامركزية الأرض يدفع إلى الواجهة احتمال "وجود بشر على كوكب غير الأرض"! وهي فكرة ظهرت أول مرة في أثينا الوثنية في القرن الرابع ق.م(16) ووئدت. ثم بعثت من جديد في عصر النهضة على يد "جيوردانو برونو"، فوأدتها روما الكاثوليكية. ثم بعثت للمرة الثالثة في القرن الماضي -ولمّا توأد بعد- لتصبح الفكرة الأكثر رواجاً في العصر الحديث. إنها أيقونة هوليوود ومادة إلهام كتاب أفلام الخيال العلمي في الزمن الراهن: فكرة "وجود بشر على كوكب غير الأرض"!

> الهوامش:
(11) "المائة: تقويم لأعظم الناس أثراً في التاريخ"، تأليف مايكل هارت، النسخة العربية "الخالدون مئة أعظمهم محمد"، ترجمة أنيس منصور، المكتب المصري الحديث، ص18.
(12) السابق (3)، ص19.
(13) "مفاوضات حول المائدة"، 1982 مصر، كليفورد بارني، منشورات غير مذكور، ص29.
(14) السابق (10)، ص99.
(15) كتاب العزيف للشاعر الصنعاني "عبدالله الخطرد"، كتاب علوم باطنية وأساطير قديمة وسحر. ترجمه إلى الإغريقية "ثيودور فيلاتاس"، واشتهر، منذ ذلك الحين، باسم نيكرونوميكون، كما ترجم للغات أخرى. الأكيد أن النسخة العربية فقدت، وأنه لم يطبع أبداً، ويوجد مخطوط في مكتبة الفاتيكان حسب كاتب قصص الرعب والخيال الأمريكي "لافكرافت". وقد تعرض الكتاب بالمناسبة للإحراق والمصادرة، على مدى قرون، من قبل الكنيسة.
(16) "عالم صوفي.. رواية حول تاريخ الفلسفة"، تأليف: أوجستاين غاردر، ترجمة حياة الحويك عطية، منشورات دار المنى، الطبعة الثانية، عام النشر والبلد غير مذكور.