اليمن: القمع تحت الضغوط

اليمن: القمع تحت الضغوط

عبدالباري طاهر
هذا هو عنوان تقرير منظمة العفو الدولية عن اليمن، وهو عنوان أو بالأحرى تقرير مرعب حد الكوابيس. عشنا مفردات كوارثه المتسلسلة والمتناسلة، ولكن قراءة مفردات حرب صعدة الجهنمية وجرائم الإرهاب والمواجهات الدامية والراعبة معه، والقمع الكالح ضد الحراك الجنوبي، وسيف الاختطاف والاختفاء القسري والاعتقال والمحاكمات الآثمة والتعذيب ضد الصحفيين.. كلها وقائع مفزعة وأليمة.
العنوان ملتبس وإشكالي. فالقمع تحت الضغوط يوحي بأن ما يجري في اليمن من حروب مستدامة وقمع الاحتجاجات السلمية في الجنوب، والمواجهات الدامية مع القاعدة، والتنكيل بالصحفيين مصدرها ضغط خارجي. وشيطنة الآخر أو إلقاء التهم على الخارج ليست دائماً بالخاطئة.
معروف أنه في ظل ضعف الإرادة الداخلية والانقسامات المتناحرة غالباً ما يفسح السبيل أو يشرع الأبواب للتدخل الخارجي الذي يجد في ضعف الداخل وسيلته للغرض والضغط والهيمنة.
لابد من قراءة حافزة في العنوان، وتفكيك مفردات القمع ابتداء من الحروب المستدامة، ومن ثم المواجهة مع الإرهاب، وقمع الحراك الجنوبي، والقمع الممنهج ضداً على الصحفيين وحرية الرأي والتعبير.
فالتنكيل بالصحفيين ووأد الحريات شيمة أصيلة في الاستبداد، ولا يحتاج إلى ضغط أو إكراه، وتكاد الحرب السادسة أن تكون إغواء وإغراء وربما ضغطاً سعودياً، وإن كانت أيضاً في الوقت نفسه تعبيراً عن أزمة داخلية متفاقمة، وهروباً من استحقاقات يعجز النظام عن إنجازها أو الوفاء بها. فالحرب المشجب الذي يعلق عليه النظام فشله في التنمية والبناء، والإجابة على أسئلة الجوع والجهل والمرض، وتسيد الفساد والاستبداد، وتآكل هيبة وشرعية القوة.
أما قمع الحراك الجنوبي فامتداد لحرب 94 التي ألغى بها النظام الوحدة الديمقراطية، وأقام بدلاً عنها وحدة الغلبة والقوة والقهر "الوحدوي الأخوي"، وهي وحدة لا يمكن أن تحمى إلا بالشرعية التي تحققت بها وإن إلى حين.
وقمع الصحافة والصحفيين منهج أصيل يوغل فيه الحكم (ولا إكراه ولا بطيخ).
ربما كان الإرهاب أقرب لمدلول العنوان. فمكافحة الإرهاب حاجة دولية، وتحديداً أمريكية وغربية أكثر من أي شيء آخر. فتآخي الفساد والاستبداد والإرهاب حاجة موضوعية، فمن رحم الفساد يتولد الإرهاب وينمو ويزدهر بالقدر الذي يقوي الإرهاب الاستبداد، يستخدم الاستبداد الإرهاب ذريعة لمزيد من الفساد والإفساد، ولقمع الحريات العامة والديمقراطية. فالفساد الديني كالفساد السياسي، هما البيئة الخصبة لإنبات الإرهاب وانتشاره، والفساد والإرهاب صنوان سقيا بماء الاستبداد، تحالفهما قوة لهما، كما أن تحاربهما يزيد من تعاظمهما. فالحرب الاستعمارية التي شنتها أمريكا وحلفاؤها ضد الطالبان والقاعدة قد أسهمت في انتشار القاعدة في أكثر من مكان، وأعادت الاعتبار لحركة طالبان في أفغانستان، وتدمير العراق هو المساءل عن الكارثة التي يعيشها العراقيون، والتدخل الأمريكي في الصومال وباكستان قد خلق مقاومة أقرب للإرهاب منها للمقاومة الوطنية.
يترصد التقرير المومى إليه التدخل الأمريكي في اليمن، وانصياع الحكم للضغط الأمريكي في تصيد المواطنين "الأبرياء العزلـ" (البدو الرحل) في المعجلة ومأرب.
تجارة الحروب جزء في تركيبة النظام ونهجه، وقد استفاد وإلى أبعد مدى من هذه التجارة التي يتقنها. وقد أشار التقرير الذي تتجاوز صفحاته المائة، إلى العوائد والمساعدات بالمال والسلاح التي جناها الحكم من "الحرب ضد الإرهابـ"، وبالتحديد من أمريكا وأوروبا وبعض الدول الإسلامية.
فشل الحكم في تجيير حرب صعدة للإرهاب، وأصبحت الحرب "جريمة عريانة" يتحمل الحكم والسعودية جريرة إشعالها وتبعة "جرائم حربـ" دمرت وقتلت وشردت المئات والآلاف من الناس والمساكن والمزارع. عوائد هذه الحروب الست خفية، ولكن الآثار الكارثية للجريمة التي يتحدث عنها أحد "المتسوقين" في سوق الطلح، بأنها من مشاهد يوم القيامة، وحتى تكون صورة الجريمة الكارثية واضحة.
أحد شهود الحرب الكونية الثانية كما أرادها قائد الحرب المتقاعد خالد بن سلطان، أو مشهد القيامة حسب أحد شهودها "أنا كنت في السوق (سوق الطلح)، شفت طائرتين وبارشوتات نازلين منهما. أنا والناس الآخرون قلنا "إغاثة"، أخذت 3 دقائق حتى نزلت، صحت قنابل وهربت أصيح قنابل وانبطحت على بطني، وتحول السوق إلى صياح، ظلام، دخان، غبار، أحجار، شظايا، نوافذ مكسرة، رحت أبصر بطرف عيني مشهد كان من مشاهد يوم القيامة".
يلقي التقرير بجرائم الحرب في صعدة على النظامين: اليمني والسعودي، فقد اشتركا في تدمير مدينة صعدة، ودمرا عشرات ومئات القرى، وخربا مئات وآلاف البيوت والمساجد والمدارس والمزارع، وشردا ما يقرب من 300 ألف نسمة، وقتلا المئات والآلاف من الأبرياء، وكلها جرائم حرب لا تقل أو لا تختلف عن جرائم إسرائيل في غزة.
يرصد التقرير جرائم أمريكا بالتواطؤ أو الضغط على النظام، ويرى فيها محقاً أنها جرائم حرب بامتياز. فالقتل بواسطة الطائرة بدون طيار. وينسب التقرير للقوات الأمريكية عدة هجمات مميتة، وكلها خارج القانون الدولي، وتعتبر جرائم حرب حقيقية.
البشع بحق أن الأنظمة الثلاثة في صنعاء والرياض وواشنطن، هم "الخالقون الحقيقيون" للإرهابيين الصغار (الضحايا)، وليس هؤلاء الصغار الضحايا والجلادين في آن، هم ضحايا قصف الطيران الأمريكي. فالقتلى في شبوة ومأرب من المواطنين الأبرياء، وحتى المعارك الضارية التي دارت وتدور في أبين وشبوة، لودر والحوطة، تتخذ طابع الدراما. يحتل مسلحون المدينة، وبعد أيام من العبث والتدمير ينسحبون بسلام تحت حماية القوات الحكومية المحاصرة للمدينة، ليجرى تدمير المنازل وقتل المواطنين واعتقالهم. فالأطراف الثلاثة يتحالفون ويتقاتلون ليكون المواطنون هم الضحايا.
خرج التقرير الضافي بتوصيات لمقترفي جرائم الحرب: "النظام، والسعوديين والأمريكان"، واتهمهم جهاراً نهاراً بجرائم حرب. كما وجه انتقادات حادة ضد الحوثيين الذين يشتركون مع الحكم في تجنيد الأطفال، وفي جعل السكان دروعاً بشرية، وفي العديد من الانتهاكات.
اعتنى التقرير أيضاً بالانتهاكات ضد الصحفيين وحرية الرأي والتعبير، وترسم بدقة متناهية عمليات الخطف والإخفاء والاعتداء بالضرب والمحاكمات الجزاف. كما فند شرعية المحاكم الاستثنائية، ومحكمة الصحافة "الخاصة" التي أدانتها قيادة نقابة الصحفيين بعد مباركتها والإشادة بها.
حسناً فعلت منظمة حقوق الإنسان ومنتدى الشقائق العربي بعقد ندوة لمناقشة التقرير، وحبذا لو اهتم الصحفيون والمحامون وصحفيات بلا قيود ومنتدى الإعلاميات وهود والصحف الحزبية والأهلية وحقوقيون وناشطون ونواب بنشر التقرير على أوسع نطاق. فهو سجل حافل بتدوين جرائم الحروب والإرهاب، والعدوان الدائم ضد الصحفيين، والحريات العامة والديمقراطية، والحريات الصحفية تحديداً.