اليمن في مفترق الطرق

النداء كتابات
النداء كتابات

اليمن في مفترق الطرق

* د. عبدالسلام نور الدين
وصلت إلى اليمن التي تجتاحها الحرائق من كل الأطراف، ويبدو أن دخان الحرائق التي تلون ألسنة اللهب المسعورة بالغار مع الغياب الكامل لقوات المطافئ، هي الحالة الراهنة التي تتنفس فيها اليمن بملء رئتيها ثاني أكسيد الكربون.
المشي في شوارع صنعاء أو التجوال بسيارة فيها يشبه مشية الخيذلي بين مليشيتين تتبادلان القصف الأرضي والبحري في بلاد الصومال التي تحررت تماما هذه الأيام من قيود الدولة والنظام والقانون. الشيء الذي لم يخطر يوما لفلاسفة الفكر الفوضوي في القرن ال19؛ أمثال برودون، أن اليوتوبيا التي ظلوا يحلمون بإنزالها من رؤوسهم إلى أرض الواقع، وقد حاق بهم الفشل الذريع، ستتحقق في مطلع الألفية الثالثة، جملة وتفصيلا، في بلاد الصومال.
تبدو شوارع صنعاء في حال من الحرب الأهلية الزاحفة التي ليس من المنتظر أن تضع أوزارها في القريب العاجل. أما أطرافها المتنازعة فهي حركة سيارات الأجرة والدباب والركشات والعربات الخاصة والدراجات النارية في مباراة محمومة مع الشاحنات والباصات وأحيانا السيارات التي تحمل النفايات والأطقم العسكرية التي تتقاطع مع حراسات شيوخ القبائل.
إذا أردت أن تتخلص من شخص لا تكن له ودا ما دون أن تكون متهما على الإطلاق بالقضاء عليه، فحبب له مآثر زيارة صنعاء والتسكع بحرية في طرقاتها للتمتع بجمالها الآسر، ومن جمال صنعاء ما قتل.
أيهما أكثر كوارث وتأهلا للتلاشي من ظهر الكرة الأرضية قبل نهاية الربع الأول من هذا القرن إذا سارتا على منواليهما في الحاضر: اليمن أم السودان؟ لكي تصدر حكما أقرب إلى الدقة والصواب وأن يكون مقبولا من الأطراف المعنية في اليمن والسودان، فلابد من حكم عدل من الصومال الشقيقة لترضي حكومته.
بدت لي اليمن في زيارتي الأخيرة لها في يناير الماضي 2010، وكأنها شاحنة ضخمة على ظهرها بشر وبضائع تقف على أحد مرتفعات جبل "سمارة"، ففلت منها كابحها، فتدلت صوب الهاوية، ولا سبيل لجذبها من الوراء إلى الخلف، ولابد من انتظارها بهلع حتى يقر لها قرار في أسفل "السحولـ".
ترحلت ومعي زوجتي مرة من شارع بغداد إلى الحصبة مع صاحب تاكسي، شاب نحيل البدن أشعث الشعر "مشعفلـ" زائغ العينين لا يتوقف عن الكلام والأسئلة وكأنه شرطي أمامه متهم بائس عليه أن يجيب على كل أسئلته بتفصيل، ولكن الأخطر من أسئلته التي تتناثر كرصاص ينطلق من فوهة بندقية يحملها أعمى في "باب اليمن"، أنه يندفع بجنون في قيادته، فزج بنا مرة ونحن نعبر حي "هائل سعيد" بالمعكوس في شارع ضيق ذي اتجاه واحد، وحينما قلنا له -وقد انتابنا الهلع–إنك تسير عكس اتجاه السير وتنطلق بسرعة لا مبرر لها، التفت إلينا ليقول بهدوء وكأنه يستنكر أمارات الخوف التي بدت علينا: لا تخافوا أنتم في أيد أمينة. فقلت لنفسي هذا شاب ضل طريقه إلى هذه العربة الهالكة، وكان عليه أن يكون على قمة الهرم السياسي في النظام العربي.
رأيت أن أقوم بتوجيه الأسئلة بدلا من تلقيها، ليتوقف هذا السائق عن ذلك التحري الذي يجريه معنا:
- هل التاكسي هي مهنتك الأولى التي تدربت عليها؟
- أتيت إلى مهنة التاكسي مكرهاً حينما أوصدت كل الأبواب في وجهي. أنا في الأصل طالب في قسم الجيولوجيا بجامعة إقليمية، ولكن ابن رئيس الشرطة بالمدينة الذي كان زميلنا في الدراسة، قاد طقما عسكريا مخصصا لحراسة أبيه للقبض على رئيس القسم الذي رسبه في إحدى المواد الدراسية، ففر الأستاذ ولجأ إلى عشيرته التي شنت هجوما مضادا، فأغلق القسم الذي اضطرب بعد تلك الواقعة، فعن لي أن أكون مقاولا صغيرا، ولما حاصرتني الديون من كل جانب وضربني الإفلاس هجرت تلك المهنة التي لم أعثر على بديل لها يوفر لي الحد الأدنى من مطالب الحياة، فرأيت أن الهجرة إلى أي فج في الأرض هي المخرج من كل متاعبي وسوء حظي، ولكن المصيبة لم أجد سفارة واحدة تمنحني الفيزا لدخول أراضيها، إذ إن كل سفارة أطرق أبوابها تطلب مني ضمانا ماليا كبيرا، ولو توفر لي ذاك الضمان لما فكرت في الهجرة أصلا –تصوروا حتى سفارة إريتريا رفضت أن تمنحني شارة الدخول إليها.
**
وددت أن أستفسر السائق لماذا يستصغر إريتريا على ذلك النهج؟ ثم عدلت عن ذلك، إذ رأيت من الأفضل أن يواصل هذا السائق الحديث عن متاعبه، لأن الحزن الذي ران عليه قد قلل من السرعة القهرية التي يقود بها سيارته.
- حسناًً، وماذا فعلت بعد تعذر الفيزا حتى الإريترية منها؟
- هنا قررت أن أذهب لأنضوي مع الحوثيين لأحارب في صفوفهم.
- وهل أنت زيدي المذهب؟
- أنا شافعي المذهب.
- وهل أصبحت حوثياً؟
- تصوروا رفض الحوثيون أن أقاتل في صفوفهم.
- ولماذا رفض الحوثيون أن تقاتل في صفوفهم؟
- قالوا لي بالحرف الواحد: أنت أحد عملاء الدولة، وعليك أن تعود من حيث أتيت.
حسنا لا يزال الطريق أمامنا ممتدا، وبدت قصة هذا السائق مثيرة للأذن. إذن لابد من ملاحقته بالأسئلة:
- حسناً، ثم ماذا فعلت بعد أن اتهمك الحوثيون بالعمالة للدولة؟
- ذهبت فورا إلى مقاتلي القاعدة، وعرضت عليهم رغبتي الصادقة أن أكون مجاهدا في صفوفهم.
- لابد أنه قد رحب بك مجاهدو القاعدة!
- ليس بالضبط. طلب مني أصحاب القاعدة أن أحفظ كل القرآن أولا قبل أن يبتوا في طلبي الانضمام إليهم.
- وهل وافقت على شرطهم ذاك؟
- قلت لهم كيف تطلبون مني حفظ القرآن جملة وأنا لا أستطيع حفظ اسمي كاملا؟
وهنا عاد سائق التاكسي إلى عادته القديمة في توجيه الأسئلة لي:
- وأنت يا أستاذ، ما هي مهنتك في هذا العالم؟
- أنا مدرس.
- وماذا تدرس يا أستاذ؟
- أدرس الفلسفة.
حينما اخترقت كلمة الفلسفة أذنه ارتعش وانتفض، ثم أوقف محرك السيارة وكنا قد وصلنا إلى نهاية مشوارنا، ثم استدار نحوي بكامله، وبرقت عيونه المضطربة، وقال لي بجدية كاملة:
- ألا تراني حالة فلسفية تستحق منك التأمل والدراسة؟
استغرقت في الضحك، وبدا لي أن الضيق من أسئلته المتدافعة والذعر من قيادته المتهورة قد حرماني من التعرف على إنسان هو أكثر من الحالة التي يبدو عليها.
**
لم ينسَ سائق التاكسي الذي لم يجادلنا على الأجرة التي لم نتفق عليها منذ البداية، أن يقول لنا ونحن نغادر سيارته المهشمة الأبواب التي تعرت من ألوانها الأولى، واكتسبت من الغبار الصنعاني الناعم ومن أخاديد الصدمات التي لابد أنها قد تكررت كثيرا، لونا جديدا لم يخطر على بال عشاق الغرائبيات في بعض مدارس التلوين في الفن الحديث: العفو منكم.
الجدير بالذكر أن سائقنا يحمل رقم سيارته الأمامي في حضنه، يرفعه بيده ليراه شرطيو الحركة في "الجولات"، فلا يملكون غير الابتسام.
رأيت أن سائق هذا التاكسي واضطراب حياته، وسيره عكس الاتجاه في طريق ذي بعد واحد، والأسئلة التي يوجهها دون توقف، وطرقه كل المنافذ التي تأتي منها المقاتل دون أدنى اعتبار للمخاطر التي يمكن أن تودي به.. يجسد في تلك اللحيظات اليمن كلها التي تنزلق على مرأى من نفسها ومن الجميع، على قشرة المحن والإحن التي تحاصرها من كل الاتجاهات، ولا يبدو عليها أنها تواجه أكبر أخطار حياتها.
[email protected]