الصحة تستضيف عزرائيل في مركز الفشل الكلوي بالحديدة

الصحة تستضيف عزرائيل في مركز الفشل الكلوي بالحديدة

* يستقبل المركز 520 حالة يومياً منها 130 تستدعي الخضوع لجلسات غسيل
* الأهدل: استهلكنا 48 ألف جلسة منذ بداية العام 2009 ووزارة الصحة ماتزال متمسكة ب20 ألف جلسة
*  فاتن العريقي: تنتاب المرضى نوبات هلوسة بسبب انتظار جلسات الغسيل والخوف على حياتهم
 
 الحديدة - عبدالحافظ معجب
كان شاحباً يحمل في يده اليمنى قارورة ماء ويمسك باليسرى كيساً بلاستيكيا باهتاً امتحت بياناته. كان يجلس في طارود مركز الفشل الكلوي بمحافظة الحديدة، ينتظر دوره في جلسة الغسيل الكلوي. اسمه عباس علان.
هو من ريف تهامة، أصيب بالفشل الكلوي منذ 4 سنوات أثناء تسلله إلى السعودية رفقة والده بحثاً عن عمل.
"منذ أصبت بالفشل الكلوي لم أعد أقوى على التهرب عبر الحدود، أتعب دائماً واجي هنا لإجراء عمليات الغسيلـ".
أدرك الفتى التهامي أن المرض وضع حداً لرحلاته الليلية إلى الجوار. كان يعتقد أن هذه هي خسارته الوحيدة، لكن عباس لم يكن دقيقاً؛ فإلى تعثر استئناف عمليات التسلل، فإن والده تخلى عنه، فضلاً عن نبذه من بقية أقربائه: "والدي تخلى عني لأني لم أعد صالحاً للعمل، وبعد أن توفت والدتي رحت إلى أولاد خالي، وبعد شهرين كانوا يعاملوني كأني شحات".
لم يعد عباس مرحباً به كما كان في كل مرة يعود من عملية تسلل. صار معدماً ويضطر للمبيت في مركز الفشل الكلوي في انتظار جلسة غسيل، لعدم امتلاكه تكاليف النقل إلى المركز. ويتساءل: هل سنبقى هكذا مدى الحياة؟
في كل مرة يأتي عباس إلى مركز الغسيل وفق موعد الجلسة يتفاجأ أن المركز أوقف الجلسات لعدم توفر مستلزمات الاستصفاء والغسيل. هو لا يتذكر أن المركز أجرى له جلسة غسيل في موعدها الذي حدده له الأطباء هناك.
إلى عباس كانت "منار" (9 سنوات) تنتظر الجلسة أيضاً، وإلى جوارها والدتها التي قالت لـ"النداء" إن منار أصيبت بالفشل منذ 5 سنوات. وأضافت: عندما نصل إلى المركز، ويخبرنا الأطباء بأن الأدوية نفدت أموت ألف مرة. لو استمرت طفلتي لأكثر من الأسبوع بدون جلسة الغسيل سوف تموت.
الموت هو البديل الطبيعي للمرضى المنتظرين: "في شهر رمضان جئنا على موعد جلسة الغسيل، وأخبرونا أن المركز كان متوقفاً منذ يومين لنفاد كمية الأدوية، وأن التوقف قد يطول إذا لم تصل أدوية الغسيل. كنت أتخيل ما إذا طال الانتظار وازدادت المضاعفات"؛ قالت أم منار بغصة.
اقتربت من منار، وقبل أن أسألها عن صحتها سألتني: لو سمحت يا عم قل لهم يسووا لي الدواء بسرعة، إحنا من أمس منتظرين، معي اختبار شهري لا ذاكرت ولا بقدر أختبر. ليش ما يخلوش الصغار يدخلوا قبل الكبار؟ لم أستطع الرد عليها، فقط ذرفت عيناي، وغادرتها موارياً عجزي.
يستقبل المركز أكثر من 520 مريضا يومياً، تستدعي حالات نحو 130 منهم الخضوع لجلسات غسيل.
محافظة الحديدة تعتبر الأولى في عدد حالات المصابين بالفشل الكلوي، إذ تصل نسبة المصابين فيها إلى 75%، تليها محافظة حجة ب15%، ثم ريمة ووصاب العالي والسافل ب10%.
وفي حين حددت الجلسات المقررة للمركز سنوياً ب20 ألف جلسة، يصل الاحتياج الفعلي للمركز إلى 40 ألف جلسة. وبات ارتفاع الإصابة بالمرض مشكلة حقيقية أمام التوقف المتكرر لأعمال الجلسات.
فالحاج علي محمد مقبول (50 عاماً) الذي التقته "النداء" في مركز الفشل الكلوي، قدم في اليوم الخامس لعيد الفطر: "جئت من مديرية بيت الفقيه خامس أيام العيد، ولم أستطع العودة بسبب تأخير الجلسات وكثرة المرضى، وبقيت هنا أنتظر دوري".
أما الحاج علي مغارم (70 عاماً) فكان يصرخ "تعبان أنا تعبان مقدش أسنب (أقف)، أين المسؤولين؟ أين الصحة؟ أين الرئيس؟ نسألكم بالله نشتي نتعالج".

خوف من القادم المجهول
نجيب عبدالله (16عاماً) كان منهاراً وبدا عليه الاكتئاب، وحين سألته مما يشكو بادر أحد أقربائه وقال: "نجيب جاء من مدينة زبيد قبل 4 أيام، كان يفترض أن تجرى له جلسة الغسيل قبل 3 أيام، لكن الأطباء أخبرونا أن عمليات الغسيل توقفت بعد أن نفدت الأدوية".
جولة بسيطة في مركز الفشل الكلوي كافية لأن تدعي أن عزرائيل يقيم هناك. وفي أحد ممرات المركز ارتمت "أم محمد" على بلاط منطوية على نفسها.
الأستاذة فاتن عيدروس عبدالواسع العريقي، رئيسة الجمعية النفسية للتنمية البشرية بالحديدة، أفادت بأن المرضى يعانون من صدمات نفسية جراء تأخر الدواء عنهم: "أصبحوا متعبين بشكل كبير، فعندما يطول انتظار المصاب بالفشل الكلوي لجلسة الاستصفاء والغسيل، ويكون همه الرئيسي الحصول على الدواء والوصول إلى جلسة الغسيل لإبقائه على قيد الحياة، فذلك يصيبه بحالة نفسية سيئة واكتئاب وقلق دائم وخوف مستمر على حياته".

مرضى ساخطون
الحاج أحمد جابر علي حسن (42 عاما) من أهالي ريف المراوعة، يقول: أعاني من مرض الفشل الكلوي منذ 20 عاماً. ومنذ افتتاح مركز الغسيل الكلوي بالحديدة في 1993، وأنا أتردد عليه بشكل دائم لإجراء عمليات الاستصفاء والغسيل، لكن المركز فاضي لا دواء ولا غذاء ولا نظافة، ولا توجد لديهم أي عناية بالمرضى، لا يوجد مكان مناسب يمكث فيه المريض. نحن هنا ننام على البلاط لعدة أيام ننتظر دورنا. كنا في الماضي لا نزيد عن 70 مريضاً، والآن أصبح آلاف يتزاحمون على الغسيلـ".
جابر يسمع من المرضى أن وزارة الصحة لم تعتمد توفير الأدوية المطلوبة، كما وأنها أهملت المركز حتى صار إلى ما هو عليه الآن.
هو يناشد مدير المركز ومدير مكتب الصحة والمحافظ والوزير ورئيس الجمهورية التدخل من أجلهم: "أناشدهم بحق الأمانة وبحق الألم الذي نعانيه وبحق أرواح من فقدناهم أمام أعيننا، أن ينقذوا المركز وينقذوا المرضى الذين فيه، وأدعو كل الصحفيين وقناة "الجزيرة" وكل منظمات حقوق الإنسان والجمعيات الخيرية لزيارة المركز".

لجان وتوصيات دون تنفيذ
يقدم مركز الغسيل الكلوي بمحافظة الحديدة خدمة طبية مجانية إسعافية على نفقة الدولة ويستقبل المركز المرضى من الحديدة وحجة والمحويت وريمه وذمار باعتباره المركز الوحيد في هذه المناطق إلا أنه لا يملك سوى 24 جهازاً للغسيل الكلوي تعمل على مدى 24 ساعة في اليوم والليلة لتنجز 120 جلسة يومية ويبقى عشرات المرضى الآخرين يتزاحمون في طابور الانتظار.
وفي الوقت الذي يتطلب فيه أن يجري المركز لكل مريض 3 جلسات أسبوعياً، يعجز المركز عن إجراء جلسة واحدة لكل مريض يصل إليها بشق الأنفس في الأسبوع الواحد، بالإضافة إلى أن الإهمال ونفاد الأدوية ومستلزمات جلسات الغسيل تؤدي إلى إغلاق المركز وتوقفه عن العمل، الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفات خطيرة على المرضى تصل إلى الموت، حيث بلغ عدد الوفيات خلال الأشهر الماضية من العام الحالي، بسبب توقف المركز عن العمل، إلى ما يقارب 190 حالة وفاة، وسط صمت رهيب من قبل وزارة الصحة والحكومة.
لجنة الصحة والسكان كانت أوصت مجلس النواب أواخر أبريل من العام الجاري، بإلزام الحكومة بمضاعفة ميزانية ومخصصات شراء مواد ومحاليل الغسيل لأمراض الفشل الكلوي، بما يؤمن احتياجات المرضى في محافظات الجمهورية. وشددت على أهمية إلزام وزارتي الصحة والمالية بتأمين مخصصات مالية استثنائية وطارئة لشراء مواد الاستصفاء لمركز الغسيل الكلوي بمحافظة الحديدة، بما يكفي 28 ألف جلسة غسيل للعام الحالي 2009، لعدد 520 مريضاً هم المترددون على المركز من محافظات الحديدة وريمة والمحويت وحجة.
وبحسب الدكتور علي الأهدل مدير المركز فإنه لم ينفذ شيء من تلك التوصيات، وقال: بحسب اللجنة البرلمانية التي زارتنا من مجلس النواب نحتاج إلى 50 ألف جلسة غسيل مع زيادة سنوية تقدر بنسبة ما بين 15 و20 بالمائة سنوياً، إلا أن الوزارة لم تستوعب ولم تتفهم ضرورة الزيادة في جلسات الغسيل، وأن المركز يستقبل أعداداً مضاعفة لما كان يستقبل في الماضي، مستشهداً بالعام 2006. "كان مقررا لنا 20 ألف جلسة غسيل، كانت تغطي احتياجاتنا، ومع ارتفاع وازدياد عدد المرضى بالفشل جاء العام 2007، واحتياجنا أصبح 32 ألف جلسة، ووزارة الصحة لا تعطينا سوى 20 ألف جلسة، ومنذ بداية العام الحالي 2009 استهلكنا ونفذنا 48 ألف جلسة غسيل، فيما الوزارة لا تزال متمسكة بمنحنا 20 ألف جلسة، ما يؤدي إلى التوقف أحياناً، وتضطر الوزارة إلى إعطائنا من كمية العام القادم، ما يسبب العجز المستمر.
وكشف الأهدل أن زيادة المضاعفات على المرض لهذا العام كان لها دور في زيادة عدد الوفيات، موضحاً أن نسبة الوفيات لدى مرضى الفشل الكلوي عالية جداً، وأن مضاعفاته تؤدي إلى التأثير السلبي على القلب والرئة والجهاز الهضمي والدماغ والدم والمناعة والعظام، وأن الغسيل وحده لا يكفي، فالمريض يحتاج إلى أدوية أيضاً إلى جانب الغسيل. ونتيجة للحالة المادية الصعبة لأغلب المرضى لا يتمكنون من شراء هذه الأدوية.
الأستاذ خالد عايش رئيس الملتقى الوطني لحقوق الإنسان، يقول: "يعتبر مرض الفشل الكلوي من أخطر الأمراض التي تواجه الإنسان في اليمن بشكل عام والحديدة بشكل خاص، والفشل الكلوي هو أحد الأمراض التي تصيب الكليتين، ويؤدي إلى توقف الكلى عن القيام بوظائفهما، ما يؤدي إلى تراكم السموم في الجسم وتوقف الكثير من الأعضاء الحيوية في الجسم. ولأن الغالبية العظمى من المصابين بهذا المرض هم من الطبقات المعدمة والفقيرة في اليمن، فيكتفون بعمل جلسات الغسيل وحسب، مع العلم أنه من المفترض أن يجري المصاب بالفشل 3 جلسات في الأسبوع، إلا أن شحة الإمكانيات والإهمال المتعمد من قبل وزارة الصحة لمركز غسيل الفشل الكلوي بالحديدة جعل المركز ينفذ جلسة واحدة لكل مريض في الأسبوع، وهذا ما يزيد من معاناة المرضى الذين يتجرعون الموت ولا يقوون على الحركة نتيجة تردي وسوء الخدمات في المركز الوحيد للغسيل في محافظة الحديدة. ونحن نربأ بوزارة الصحة أن تراجع نفسها وتعتبر أبناء الحديدة ومرضى الفشل الكلوي مواطنين يمنيين من حقهم على الدولة أن تكفل لهم الدواء والخدمات الصحية اللائقة مجاناً التزاماً بالدستور اليمني والمعاهدات والمواثيق الدولية".