مازالت الغائب الحاضر رغم المحن.. "الأيام".. من رحلة الخمسين سنتاً إلى الخمسين ريالاً

مازالت الغائب الحاضر رغم المحن.."الأيام".. من رحلة الخمسين سنتاً إلى الخمسين ريالاً

- كفى الهاشلي
"إن سياستنا دائماً واضحة وصريحة، وهي السياسة العربية القومية التقدمية التي حرصنا طوال انشغالنا في الحقل الصحفي على التمسك بها والتزامها على جميع الأحوال.
ولسنا بحاجة اليوم إلى تأكيد جديد لتمسكنا بهذه السياسة فإنه على الصعيد التطبيقي العملي سيظهر مدى حرصنا القوي على انتهاج هذه السياسة".
هكذا بدأ عميد "الأيام" محمد علي باشرحيل افتتاحية العدد الأول من صحيفة "الأيام" اليومية -كبرى الصحف اليمنية- التى أسدل الستار على قصة كفاحها طوال العقود الخمسة الماضية (7 أغسطس 1958) ورواية صمودها رغم كل التحديات. وهذا العام احتفل بها الجمهور في ظل غيابها عنه بسبب السياسات التعسفية للسلطات، وأطأ معها شمعة العام بعد الخمسين بفعاليات تطالب بعودتها مجدداً، وتؤكد حبه وقناعته بما قدمته "الأيام" له من غذاء يومي.
لابد من عودة الأيام وإن كبرت المحن
وليس الحديث حقيقة عن مولد هذه الصحيفة الرائعة هو ما أرمي إليه من خلال هذه السطور، غير أنني وآخرين بالطبع نحتفل بمذاق آخر وذكرى لا تقل عن الولادة فرحة، ألا وهي ذكرى معاودة إصدار الصحيفة في السابع من نوفمبر 1967، ف"الأيام" عانت من ويل قوانين دولة ما بعد الاستقلال كغيرها من الصحف في عدن، حيث ألغت أول حكومة كافة التصاريح لجميع الصحف والمجلات الدورية التي ازدهرت بها عدن تلك الفترة.
بيد أن فترة التوقف تلك لم تلغ تاريخ "الأيام" أو تغير مكانتها بين أبناء الشعب الجنوبي آنذاك. ولأن بقاء الحال من المحال عاودت "الأيام" الصدور مجدداً في السابع من نوفمبر 1990، بناء على قانون الصحافة الجديد، ليرتبط الرقم سبعة بولادتين لا يكاد ينساهما أحد ممن أحب تلك الصحيفة.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فها هي "الأيام" تمر بمرحلة تحدٍّ جديدة في مشوارها الصحفي، وبدأ بتاريخ أيضا لن ينساه أحد كونه ارتبط باليوم العالمي للصحافة الثالث من مايو. وما تزال حبيسة حتى اليوم بفعل لعبة السياسة لا القانون والدستور.
إن امتثال الصحف (غير العابدة لسلطة الفساد والظلم) لمبدأ الحرية والحق واحترام الرأي والرأي الآخر، وعرض الحقائق للمواطن بشكل عام وتبصير المسؤول بشكل خاص بمكامن الفساد لا يعد في بلدنا صوابا رغم تغنينا بالديمقراطية ورقصاتها الفلكلورية.
والحقيقة أن الدستور اليمني يضمن بمادته السادسة مثول بعض الأجهزة للمحاسبة القضائية ولا تستثنى وزارة الإعلام من ذلك! فأياً كان الانتماء الحزبي لا يحق لوزير الإعلام قانونياً تجنيد وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب لصالح الحزب الحاكم مهما كانت المبررات.
كما أثبتت دراسة الدكتور محمد عبدالله نعمان حول "حرية الرأي والتعبير والمعتقدات ودور البرلمان في حماية الحريات" أن من عيوب قانون الصحافة تكريسه لمحاكمة الصحف الورقية فقط، بكونه لم يتطرق للوسائل المرئية والمسموعة "الهدف هو تقييد الصحف الورقية لأنها غير مملوكة للدولة".
وأشارت الدراسة المتناولة في 11 باباً، إلى أن قانون الصحافة يتناقض مع الإعلانين العالميين لعامي 1948 و1966، ناهيك عن كون المواد في القانون من 104 إلى 110 تعاقب كافة العاملين في الصحيفة ومؤسسات الطباعة ومكاتب الترجمة مع استثنائها للقراء فقط، وعليه فإن الباحث اعتبر إفراد الباب السادس 11 مادة لمعاقبة الصحفيين في قانون الجرائم والعقوبات رقم 12 غير المواد الأخرى التي تلتقي في مجملها مع الأحكام الجزائية التي تحكم بعقوبتين في نفس الوقت، جميعها عدها الباحث خروجا عن أحكام الدستور، منوها إلى أن النظرة العقابية في القانون هي تجريم الآراء والأفكار.
ويشير نعمان إلى أن هناك ممارسات حالية تتم خارج نطاق القانون، وتتم بناء على أوامر إدارية أو توجيهات أمنية عليا من اعتقال للصحفيين ومصادرة للصحف وكذا إخفاء قسري، تعد بالأساس مخالفة للمادتين 47 و48 من القانون.
غير أن العديد من وسائل الإعلام اليوم تلعب أدوارا خارج نطاق العمل الصحفي، بل وخارج قانون الصحافة والمطبوعات، إلا أن الرضا عنها من السلطة جعلها تسرح وتمرح بقانون المزاج العلني.
إن الخط الذي سارت عليه صحيفة "الأيام" لا يضعها بقفص الاتهام أو يحق للسلطة التعامل معها بهكذا منهاج، فالحقيقة لا غبار عليها مهما كابرت الأنظمة، فصفحات "الأيام" كانت مفتوحة للسلطة عينها!
نالت "الأيام" في 2008 نصيب الأسد من حجم الانتهاكات التي كان محرروها ومراسلوها بل وناشراها يتعرضون لها على مرأى ومسمع، ورصدت عدة جهات حقوقية حالات عدة، في حين كانت الصحيفة تتعرض لأكثر من ذلك، وتكتفي بعض الأحيان بحل المشكلة التي تعتريها دون الإعلان عنها أو النشر.
فالحكومة اليمنية خلال السنوات الأخيرة فرضت عدة قيود على حرية الرأي، واستهلت هذا العام بباقة منوعة من العقوبات بينها ما تعرضت له صحيفة "المصدر" من أحكام جائرة تهدف من ورائها السلطة تكميم الأفواه وجعل الصحافة تابع ومؤيد، ولم يقتصر الأمر على الصحف فقط، بل لقيت المواقع الالكترونية الكثير من المضايقات، وشهدت حالات إغلاق وتراجع معها عدد المواقع الذي وصل في 2006 إلى ما يقارب 120 موقعاً، بل وبلغت القضايا أمام القضاء ما يزيد عن 10 قضايا.
بل وسارعت الدولة لتكوين هيئة لمكافحة الفساد، وأصدرت قوانين مكافحة الفساد في أكتوبر 2008، رغم أن من بين مهامها تفعيل مبدأ المساءلة وتعزيز الدور الرقابي للأجهزة المختصة والتيسير على أفراد المجتمع في إجراءات حصولهم على المعلومات ووصولهم إلى السلطات.
وهذه حقيقة تؤكدها الفقرة الخامسة من المادة 3 بالفصل الثاني، إلا أن أياً من الذين أنفقوا المال العام لصالح الحزب الحاكم والتغني له عبر وسائل الإعلام لم يقدموا للعدالة بل ولم تراقبهم الهيئة. ورغم كل التقارير الحقوقية التي تحدثت عن الانتهاكات بحق الصحفيين والصحف من قبل وزارتهم عينها والأجهزة الأمنية أيضاً لم تظهر قضية واحدة أنصفتها الهيئة.

"الأيام" ويومياتها الإخبارية
اعتمدت "الأيام" خلال مراحل إصدارها السابقة على الحقيقة الخبرية والكم المعلوماتي الأولي في النشر الخبري. ورغم تنوع القوالب الصحفية الفنية في كتابة الأخبار ظلت "الأيام" تفتح فصول كتاب مدرستها بطريقتها التي صنعتها بنفسها، واعتمدت على الخبر من مصدره ومن قلب الحدث، بدأت مع مراسليها الشعبيين وتوسعت حتى أصبح مصدرها يمتد من المسؤول إلى المواطن البسيط.
لم تجعل صفحاتها أسيرة لحزب دون آخر أو لمؤسسة دون أخرى، فالجميع كان يجد له مساحة على صفحاتها اليومية.

مع شكاوى الناس
لم تترك "الأيام" يومياتها الخبرية تنسيها أنها من الناس وإليهم، فأفسحت في عددين من الأسبوع مساحة للناس وتظلماتهم ومناشداتهم، وكانت أشد حرصاً على تسلم كافة المستندات والوثائق التي تثبت صحة الشكاوى والتظلمات، تماماً كما تفعل في اعتماد الأخبار. بل إن إدارتها تقوم بإجراء الاتصالات بشكل شخصي لحل بعض المظالم والشكاوى قبل النشر، وتتريث كثيرا حتى لا تجعل من مظلمة الناس سبقاً لها على حساب منفعتهم.

على خطوات عميدها سارت "الأيام"
من يقرأ كتابات عميد "الأيام" محمد علي باشراحيل، ويراقب الخط الذي سار عليه الناشران هشام وتمام باشراحيل، سيجدها واحدية الهدف، فتحت عنوان "للإيضاح" قال عميد "الأيام" محمد علي باشراحيل في العدد 644 في الخامس من يناير1961: "إن الأحزاب السياسية في نظرنا لا تقوم على أساس تدعيم الأشخاص بل تقوم على أساس تدعيم المبادئ وتسخيرها لخدمة القضية الوطنية تجاوباً مع إرادة الشعب وأمانيه بواسطة التخطيطات التى تضع معالم الطريق والبرامج التي تحدد نوعية المستوى للشعب...".
ومن هذا المنطلق فتحت "الأيام" صدرها للجميع برحابة، وظلت على نفس الخطوات في العهد الحالي وأكدها رئيس تحريرها هشام باشراحيل.
ففي العدد 5475 السابع من أغسطس 2008، قال في كلمة اليوم تحت عنوان "العيد الذهبي": "كل هذه المثل والأخلاق التي غرسها فينا عميدنا طيب الله ثراه والدنا محمد علي باشراحيل الذي رسم للأيام سياسة منذ العدد الأول والذي نسير على خطاه وهداه متمنين أن يستمر عطاؤها من خلال كل ألوان الطيف السياسي الذين أفسحت لهم الأيام وتفسح حتى اليوم صفحاتها حتى وإن لم نتفق معهم...".
 
لحظات المحن
لا يغيب عن ذهني والكثير من الزملاء الذين حشروا في مكتب إدارة "الأيام" حين تعرضت للهجوم من قبل السلطات الأمنية قبل أشهر، كانت اللوحة المرسومة أمامي تبرز روح الأبوة التي خلقها رئيس التحرير الأستاذ هشام باشراحيل حين ظل قابعاً بين الموظفين رغم أن عائلته التي تعرض منزلها للرصاص الحي بحاجته، وبإمكانه الانسحاب من الباب الجانبي، إلا أنه ظل بيننا يرى ويسمع ويرقب، ويطلب النجدة لمن أصيب من حراسة "الأيام".
ولا أظن أن هنالك زيفاً في علاقة "الأيام" بالناس فسكان عدن هرعوا حينها إلى المبنى بل وتلامذة الثانويات والإعدادية. كانت مواقف لا تعبر عن زيف مطلقا فلا أحد يرمي بنفسه إلى التهلكة إلا إذا كان محباً.
ولأن الأزمة اليمنية تنوعت الجوانب وتوحدت السبب تبقى رواية الأجداد والأقدار حول القمة والمنحدر هي فيصل الأزمات في البلد، فما يصل الفساد إلى الذروة حتى يقع مرتكبوه في المنحدر، وتعود الحياة إلى مجراها الصحيح، وتسير عجلة الحياة مجدداً.
ورغم كل المحن التي تمر بها الصحافة اليمنية و"الأيام" إلا أنها زائلة لا محال، فستبقى المحبوبة التي بدأت خطاها مع القراء من الخمسين سنتا إلى الخمسين ريالاً، عائدة إليهم مهما طالت المدة.