العودة الكثيفة لظاهرة الإخفاء القسري تؤكد استعادة اليمن لمظاهر الدولة البوليسية، واختطاف الصحفيين والنشطاء يفصح عن رغبة الدولة بتعويض خسائرها في صعدة، وضعفها أمام الحراك في الجنوب، بتأكيد قوتها في صنعاء ونقل معاركها إليها...

العودة الكثيفة لظاهرة الإخفاء القسري تؤكد استعادة اليمن لمظاهر الدولة البوليسية، واختطاف الصحفيين والنشطاء يفصح عن رغبة الدولة بتعويض خسائرها في صعدة، وضعفها أمام الحراك في الجنوب، بتأكيد قوتها في صنعاء ونقل معاركها إليها...

مصير المقالح مؤشر سالب عن مصير اليمن!
ماجد المذحجي
يؤكد المناخ الأمني في اليمن الآن استعادتها لمظاهر وتقاليد الدولة البوليسية، بنزقها وحسها المنفعل باستمرار، ومزاجها المتوتر والمعادي للحريات والسياسة والمجتمع. حيث يصير الأخير محل اشتباه دائم، ويتم تصنيف الناس أمنياً وتبعاً لتصورها الضيق عن "الولاء": للحاكم أو الأيديولوجية أو الحزب أو العصبية المسيطرة! وفق ذلك يصبح هذا المناخ السائد متناقضاً مع فكرة الدولة العصرية التي كان اليمنيون يطمحون إلى إدراكها عام 1990، فلا محل شاغر في 2009 لضمانات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان، ويصبح من الطبيعي واليسير الآن استدعاء ممارسات أمنية قديمة، من حقبة ما قبل الوحدة، لضبط المجتمع. وعلينا تبعاً لذلك أن نتعايش مع عودة كثيفة وغير خجولة لظواهر الاختطاف السياسي والإخفاء القسري للمعارضين، والمداهمات الليلية للمنازل بدون إذن قضائي، وشيوع الاعتقالات التعسفية، والاعتداء البدني، وتشويه السمعة. علاوة على تطوير مهارات إغلاق الصحف، وعرقلة إصدارها، واستعادة فكرة الرقابة المسبقة عليها، وملاحقة الصحفيين قضائياً.
محمد المقالح ضحية لهذا المزاج البوليسي والكثافة الأمنية التي تستولي على "اليمن الجديد"، ونموذج حاد لعودة فجة للإخفاء القسري كإحدى أسوأ الظواهر المرعبة التي شهدتها البلاد في فترات سوداء من تاريخها في السبعينيات والثمانينيات، هذا إذا تجاوزنا ما حدث في حرب 94 وحروب صعدة، ومازال المجتمع يدفعها ثمنها حتى الآن ولم يتعاف.
منذ 17 سبتمبر 2009 انضم المقالح لجموع المخفيين قسرياً في اليمن، لتصبح الحيوية الإنسانية العالية التي تميزه محل سؤال متردد ومرعب عن مصيرها بالنسبة لأسرته وأصدقائه وزملائه ورفاقه. ما يجعل الشأن أفدح هو ذلك الإنكار المخيف الذي يخص وضعه، والتعالي اللاإنساني على قلق أهله، ليبدو الأمر ثأرياً تجاهه، وكأن على المقالح، الصحفي والسياسي المناهض اللدود للحروب في صعدة، أن يدفع ثمن الفشل العسكري شمال اليمن. وهكذا تنتقل معارك السلطة إلى صنعاء، لتعوض خسائرها في حرف سفيان وصعدة بتحقيق انتصار على المقالح فجر أحد الأيام الأخيرة لشهر رمضان!
إن إخفاء المقالح المستمر حتى الآن يحول قضيته إلى نموذج رمزي شديد الدلالة عن حجم اعتداء الأجهزة الأمنية على المجتمع وحقوقه وضمانات القوانين والدستور والاتفاقيات الحقوقية الدولية المصادق عليها بالنسبة له. وإذا كان المقالح، وهو شخصية سياسية وعامة معروفة وصحفي ذو صيت، يصبح ضحية إخفاء قسري بهذه السهولة والفجاجة، فالأمر يصبح مقلقاً بالفعل حين يخص مصير العشرات والمئات من المعتقلين والمخفيين الذين نجهل في الكثير من الأحيان أسماءهم، ويثير سؤال حقيقي عن المدى التي يمكن أن تصل إليه هذه الدولة في ممارسة الانتهاكات لحقوق الإنسان.
إن في استهداف المقالح، والمعتقلين السياسيين والنشطاء الاجتماعيين، رغبة في ضرب السياسة كإطار عمل تعاقدي ومدني، وتفكيك الأحزاب وأدوارها، وبالضرورة أيضاً الفعاليات العامة ذات الطابع المدني، بتدمير قدرتها على حماية أعضائها، وطرد العمل السياسي والمدني من قائمة الخيارات المتاحة للناس، لترتفع بذلك الجدوى من الولاءات والانتماءات البدائية والأساليب العنيفة بالنسبة لهم كخيار لتحصيل المنافع أو لحماية الحقوق والنفس بمواجهة الدولة أو غيرها، ليصبح في هذه الاعتقالات ما يؤشر على سياسة ضمنية تبتغي في محصلتها إضعاف الاختيارات المدنية في الاعتراض السياسي والعام عليها وتزكية النقيض فقط!
لم يعد شأن المقالح محلياً، بل يصبح الآن نموذجاً لمخاوف الصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان والمراقبين الخارجين عن مصير اليمن، حيث يتم تصدير هذه الواقعة الخطيرة التي لم تنته فصولها حتى، كدلالة رمزية للتدهور الحاصل في حقوق الإنسان، للمحافل الحقوقية الدولية، ابتداءً بمجلس حقوق الإنسان الذي كانت قضية المقالح، وعدد من المعتقلين الآخرين سواء بسبب الحراك أو حرب صعدة، حاضرة بكثافة فيه، وليس انتهاءً بالمنظمات الدولية، مثل لجنة حماية الصحفيين، والاتحاد الدولي للصحفيين، ومنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والمنظمات الحقوقية الإقليمية والمحلية، علاوة على المانحين والرأي العام الدولي. مما يفاقم من حالة التآكل في رصيد السمعة الدولية لليمن؛ الدولة التي أصبحت تُميز باعتبارها بيئة نزاع مستمر، ونموذجاً لدولة قمعية وفاشلة تتجه مؤشرات استقرارها نحو السالب بسرعة بالغة.
الأمر يتعدى سمعة اليمن التي تسيء لها هذا الانتهاكات، لتصبح ظاهرة الإخفاء القسري جزءاً من مؤشرات يتم رصدها مؤخرا بعناية عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في سياق المعارك في صعدة، باعتبار ذلك جزءاً من سياسة ممنهجة ضد انتماء عرقي أو مذهبي معين، وهو ما يؤدي في محصلته إلى إنشاء تقارير وبناء ملفات أدلة تجرم النظام وتجعله عرضة لملاحقة قانونية دولية. وكل ذلك بالطبع أمر لم يعد رهناً بالتوقع، بل صار قائماً فعلياً من قبل عدد من المنظمات الدولية مثل هيومن رايتس ووتش التي شكلت تقاريرها عن الانتهاكات لحقوق الإنسان في دارفور، والظواهر الأمنية التي لحقتها في السودان، القاعدة القانونية التي قامت على إثرها الملاحقة القانونية الجنائية لرأس النظام هناك من قبل المحكمة الجنائية الدولية. وبالطبع ففي ذلك ما يجب أن يثير قلق الكثير من الجهات في هذا البلد، التي عليها أن تتدارك بالفعل كل ذلك قبل أن يصبح الأمر حقيقة قاسية لن يجدي معها أي صراخ أو استدراكات وتبريرات ستكون متأخرة كثيراً.
إن الفشل في معرفة مصير المقالح ووليد شرف الدين، والفشل في إطلاق السقلدي وفؤاد راشد وغيرهم من معتقلي الحراك وحرب صعدة، هو فشل الدولة في إنقاذ نفسها من الانجراف أكثر وأكثر في أزمة مركبة وخانقة تهدد وجودها فعلياً، ليصبح تعاليها عن المطالبات بكشف المصير والإفراج عن المعتقلين هو تعالياً عن النظر في ظروف الأزمة التي تعقدها فعلياً هذه الممارسات، وتزيد من احتقان مظاهرها العامة، الأمر الذي يطرد السياسة من حقل الحلول بالنسبة لكل الأطراف، ويرجح خيار العنف في مواجهة دولة لا تستسيغ سواه في مواجهة مشاكلها.
maged