الاحتجاج الجنوبي.. ومستقبل وحدة اليمن؟!

الاحتجاج الجنوبي.. ومستقبل وحدة اليمن؟!

>عبد الباري طاهر
اكثر من عامين بدأ الحراك الجنوبي -كأي ظاهرة- بداية مطلبية «متواضعة».
في البدء كانت مرتبات الضباط المحالين للمعاش، وهم مئات وآلاف من أكفأ الخبرات العسكرية والأمنية المطلب الاساس.
بعد نهايات حرب 94 وعودة المئات منهم من دول الجوار أحيل هذا الجيش والأمن وجزء من الكادر الوظيفي إلى المعاش بدون ترتيب أوضاعهم المعيشية.
أنتقد الرئيس علي عبدالله ممارسة «بول بريمر» حاكم العراق المدني بعد الاحتلال نقدا مريراً لأنه قام بتسريح الجيش العراقي، وكان الاخ الرئيس على حق فهل كان الامر مختلفاً في الجنوب عنه في العراق!
كان الاحتجاج الذي قاده ضباط وأفراد من الجيش الجنوبي الاكثر كفاءة وخبرة من كثير من الجيوش العربية هو الشرارة التي اشعلت السّهل كله ولكن اشعالاً مختلفاً ومغايراً عن إشعال جيفارا أو ماوتسي تنج، أو جهات التحرير في الجزائر أو فلسطين أو جنوب اليمن، ولكنها شعلة سلامية تضيء وتحرق الفساد والاستبداد دون دخان ودون أن تريق قطرة دم «للآخر المحترق».
شعلة الاحتجاج الجنوبي نجد انموذجها المفضل في ثورة غاندي العظيمة، وتجربة زعيم العصر العظيم «نلسون منديلا». وفي أرث ما رتد لوثر تركنج والسيد المسيح، وتجربة الوفد في مصر وتجربة الثورة الإيرانية التي انحدر بها الآيات إلى «ولاية الفقيه».
ولعل الأنموذج الأحلى والأروع «الانتفاضة الفلسطينية» التي أنجزت ما عجزت عنه جيوش الأمة العربية، وبالأخص جيوش الجوار: مصر، وسوريا، والأردن، في ثلاث حروب شهيرة.
روعة وعظمة الاحتجاج الجنوبي الذي التحق به أبناء الجنوب في العديد من المحافظات الجنوبية أنه حتى اليوم لم ينجر إلى العنف أو رد الفعل الدموي رغم الرصاص الحي الموجه إلى صدور المحتجين المسالمين، ورغم الاعتقالات الكيفية، وما يشبه حالة الطوارئ في هذه المناطق، وحالات الاغتيالات والاخفاء والعسف الشامل.
 من العبث نكران وقائع «نقش صرواح الكبير» في القرن السابع قبل الميلاد أو توحيد الملك شمر يهرعش في الربع الاخير من القرن الثالث. أو دولة علي بن محمد الصليحي (429ه- 1038م) أو توحيد المتوكل علي بن اسماعيل (1054- 1087ه، 1644- 1676). بنفس القدر من الحماقة النظر إلى وحدة ال 22 من مايو 1990 وكأنها امتداد لتلكم الوحدة، أو عقيدة، وحق مقدس لأحفاد وارثين أو القوة والنصر العسكري الذي حققه كرب إل وتر بن ذمار واسر فيه كما يقول التاريخ الفي «حائك» هو الذي تكرر في 1994 أو أن فيد وأتاوات وحدة أخوان محمد بن القاسم: الحسن والحسين واسماعيل هي الطريقة المثلى للحكم.
 القرن الواحد والعشرين وحدة ال22 من مايو، وهي انجاز عظيم من انجاز امتنا في خاتمة القرن العشرين، وهي عقد بين طرفين جرى الانقلاب العسكري عليها، والغاء شراكة الجنوب وتحويل الجنوب إلى ما يشبه الغنيمة أو الأرض الخراجية (حسب مصطلحات القرون الوسطى).
بقدر استحالة تحقيق الوحدة بالقوة، كما كان يطمح بعض قادة الشطرين في السبعينات والثمانينات، قدر استحالة استمرار الوحدة «بالقوة» وإلغاء التشارك. ليس بالنسبة للجنوب والشمال وانما بالنسبة للشمال والشمال، وما يجري في صعدة-رغم إدانة الحرب وأطرافها- فإن الاحتكام للسلاح شاهد فشل السياسة، وعجز الحكم عن حل معضلات التنمية والبناء والاندماج الوطني، وتحقيق العدل والمساواة بين أبناء الوطن الواحد. ولعل الحرب نفسها، في جانب معين، هروب من استحقاقات وطنية من أبرزها معالجة آثار حرب 94.
التَّظاهرات السلمية المتصاعدة منذ عامين وبضعة أشهر في الجنوب يستحيل إخمادها أو إسكات صوتها، وقد أصبحت تشكل ظاهرة تؤسس للتغيير الديمقراطي الحقيقي في اليمن كلها، وربما في المنطقة العربية مستقبلاً.
لقد وعى الجنوبيون دروس حروبهم وصراعاتهم في الماضي، وبدأوا يسعون للتّسامح والتصالح والتّآخي.
التضامن في الشمال ضعيف حد الفضيحة، وجاءت الحرب المقيتة لتغطي على الاحتجاج السلمي في الجنوب. التحاق الفضلي الفجائي بالحراك آثار العديد من الأسئلة. فللفضلي علاقات يفاخر بها مع ابن لادن، وهو من المحاربين في افغانستان، وشارك بفعالية في حرب صيف94، وتربطه علاقات متينة بصنعاء ووشائج قربى، وقد ارتبط بهذا الالتحاق جنوح نحو العنف والمواجهة العسكرية، ويتحدث الفضلي جهاراً نهاراً عن سلطنة آبائه واجداده البائدة مصحوبة بدعاوى ملكية أرض تمتد من زنجبار وحتى جبل حديد في قلب مدينة عدن، فهل تخلص من علائقه مع الحكم والجهاديين الضالعين في الإرهاب؟
معروف أن النظام في صنعاء حريص على عسكرة الاحتجاج وجره إلى المواجهة العسكرية، ميدان التفوق الوحيد، فالسلطة العسكرية ذات الجذور والتوجهات القبلية لا تجيد ولا تستطيع مواجهة الاحتجاجات المدنية إلا بالعنف، ومتى ساد العنف فإنها ببساطة تستطيع إعلان حالة الطوارئ وجر الحراك كله إلى قتال تجيده وتتفوق فيه. فهو الوسيلة الوحيدة للتوحد المعمد بالدم، والطريقة المثلى للبقاء في الحكم، والاجابة المزلزلة على أسئلة التنمية والبناء الديمقراطي والإصلاح الشامل، ومواجهة الأزمة الشاملة المحدقة بها.
الخطر أن اللذان يتهددان الحراك تسليم قيادته لعناصر لا هم لها الا استعادة حكمها، والميل نحو العنف وبشعارات خائبة تنكر وحدة شعب كانت موجودة وقائمة قبل مئات وآلاف السنين، وهي حاضرة في ضمائر الناس ووجدانهم وتفكيرهم باكثر من حضورها الزاكي في كتب التاريخ والأدب ونقوش المسند المتناثرة في طول البلاد العربية وعرضها.
إن «الاحتجاج المسلح»، التمرد، لا مستقبل له، وهو يعقد الأمور، ويدفع إلى مزيد من الدمار وتعميق الجراح، ويجر اليمن إلى حرب لا نهاية لها. لافت أن تتعامل السلطة مع الاحتجاج في مدينة عدن بقسوة متناهية تصل تخوم التوحش بينما تتساهل مع الاحتجاجات المسلحة أو الملوحة بالسلاح. يعتقل الحكم السياسيين: قاسم مثنى عسكر، والصحفيين: صلاح الصقلدي وفؤاد راشد ومحمد المقالح، وأساتذه جامعة، ويطبق بكلتا يديه على الايام منذ بضعة أشهر ضداً على الدستور والقانون. صحيفة «الأيام» والاحتجاج السلمي أخطر ألف مرة من المواجهة المسلحة.
تفضل الدولة التحاور بالسلاح على التحاور بالكلمة أو بالاحتجاج المدني، وتقمع بضراوة وعنف الكلمة والاحتجاج المسالم لأنها تعتقد مخطئة أن الاحتجاج المسالم أو الكلمة المكتوبة والمرئية والمسموعة رجس من عمل الشيطان، وبدعة ضالة ضلة السلطة- القبيلة أو «المعسكرة» لا تقوى على مقارعة الحجة بالحجة وإنما تتقن النزال والعراك، والقتل هو الوسيلة الوحيدة لإثبات الرجولة والشجاعة في الذهنية البدوية، وحقيقة هي منتهى الجبن.
قد يظن أن حرب صعدة تذكي أو تقوي الحراك في الجنوب، والحقيقة أن هذه الحرب البشعة نضعف الاحتجاج السلمي، وتعضد النزوع المحموم لدى الحكم في تسويد العنف وتعميقه ليصبح العملة المتداولة.
إن إطفاء نيران الحرب وتوسيع قاعدة الاحتجاج ومده إلى أكثر من منطقة هو السبيل الوحيد لصون الوحدة اليمنية وتجاوز اليمن لأزماتها المتناسلة والمستعصية.
ليس أسوأ من دعوات الانفصال وإنكار تاريخاً نية الكيان اليمن إلا الإصرار البليد والبائس على «وحدة معمدة بالدم»! ورفض معالجة آثار كارثة حرب 94 وإلغاء شراكة الجنوب، الطرف المؤسس للوحدة وأحد أهم بناتها ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
التحاور السياسي، وحده، كفيل بوضع الصراعات المختلفة في سياقها الحقيقي، ومسارها الصحيح، وهو السبيل الوحيد لخروج اليمن من دائرة العنف ودعوات التمزق والشتات، وهناك مخاطر تهدد اليمن ككل، فالحراك الظاهرة الايجابية شبه الوحيدة يتجاذبه تيار موصوم بالعنف والإرهاب والاغتيال ونزعات تعود إلى ما قبل اتحاد الجنوب العربي.
أما المعارضة السياسية فإن هيمنة الإصلاح عليها يقف بها عند تخوم أزمة النظام، ويجيرها لصالح مواقفه التي تنوس بين الولاء القبلي والإسلام السياسي، ولكن الخطر القادم جنوح الحكم نحو الحرب وتمرد الحوثيين المنذر بتدمير الكيان اليمني، وتحويل اليمن كله إلى ساحة صراع دولي، وحروب طائفية وقبلية لا نهاية لها.