«هوبز» في السلطة القضائية

«هوبز» في السلطة القضائية

* سامي غالب
هناك قاسم مشترك أعظم بين رجال مجلس القضاء الأعلى، وهو الخوف من الفوضى. إنهم أحفاد “توماس هوبز” القضائيون, رغم أن أغلبهم لم يقابله على صفحات الكتب أو يسمع عنه.
“أنا والخوف توأمان”, كذلك قال هوبز الذي ولد في غمار الحروب الأهلية في إنجلترا وأوروبا مطلع القرن السابع عشر. وهو واحد من أعظم علماء السياسة في الألفية الثانية, وله إسهامه الأصيل في فكرة العقد الاجتماعي, وأزيد من ذلك فقد قوضت أفكاره في السياسة والحكم فكرة الحق الإلهي إلى الأبد. لكن هوبز, كما توأمه الخوف، أصَّل للحكم المطلق. وهو، مفترضا الشر في الطبيعة البشرية، ألح على أن سعادة الإنسان تكمن في التنازل عن حقوقه الأساسية لصالح الأمن, أي لصالح الملك.
منذ 3 سنوات ومجلس القضاء الأعلى يراوح في المنطقة ذاتها في قضية المحتجزين على ذمة حقوق خاصة وعامة. وباستثناء الأشهر القليلة التالية على اتفاقه مع هيئة الدفاع عن المحتجزين (السجناء المعسرين) برئاسة الأستاذ القدير المحامي أحمد الوادعي, حين أفرج مكتب النائب العام عن عشرات المحتجزين طبق الاتفاق, فإن الخوف من الفوضى حكم سلوك رجال العدالة.
كيف؟
يفترض رجال العدالة أن اليمنيين أشرار بالطبيعة, وعدائيون, وإذا خرج المحتجزون من السجون فإن حروبا ستندلع في غير بقعة من اليمن. والتعبير الأثير لهؤلاء القضاة والأساتذه هو أنهم في مقاربتهم قضية المحتجزين يرتطمون بمفاهيم راسخة في السلطة القضائية والمجتمع. وعليه فإنهم محكومون باعتماد صيغ مرنة في تطبيق القانون.
كذلك هم يقولون... ويفعلون!
فبعد شهر من الاتفاق الذي مثَّل سابقة في العلاقة بين مسؤولين في السلطة القضائية ومحامين يتمثلون الواجب ويسلكون سبلا مهنية في الدفاع عن المظلومين, ابتكر مجلس القضاء الأعلى أسلوبا غريبا في التعامل مع المحتجزين, إذ قرر تعيين قضاة إعسار في المحافظات للنظر في تظلمات المحتجزين. ولئن مكَّن هذا الإجراء من الإفراج عن العشرات في مختلف المحافظات إلا أنه لم يغلق الملف, وبقي المئات في السجون وانضم إليهم مثلهم خلال العامين الماضيين.
قبل أسبوعين كان أحفاد هوبز في اليمن يبتدعون صيغة جديدة. إذ قرروا إلزام أي محتجز بالتوقيع على تعهد بسداد مديونيته مقسطة، مسنوداً بضمانة تجارية، لقاء الإفراج عنه.
 يريدون الفوضى من حيث يتوخون تجنبها.
 ماذا لو عجز المفرج عنه عن سداد أي قسط؟ وهل سيضمن رجال العدالة لهؤلاء المفرج عنهم وظائف دائمة تدر عليهم الدخول التي تمكنهم من دفع الأقساط في مواعيدها؟ وماذا عن أولئك الذين أمضوا سنوات في عتمة المفاهيم القضائية الراسخة (أي في السجن) ويحتاجون إلى تأهيل طويل المدى للعيش خارج السجون, ناهيكم عن تأهيلهم لوظائف معتبرة وتعويضهم عن أعمارهم المهدرة في السجون بسبب أخطاء قضائية؟!
الظاهر أن “الصيغة الهوبزية المرنة” تعقد القضية وترهق القضاة والمحتجزين والدائنين أيضا. وإذا استمر رجال القضاء على هذا المنوال فإن على مدير السجن المركزي في العاصمة أن يبحث عن تمويل خارجي لتوسيع مرافق المنشأة العقابية التي يديرها وتستوعب حاليا أربعة أضعاف العدد الذي صممت من أجله منتصف السبعينيات.
هوبز كان داعية حكم مطلق. وفي قضية المحتجزين يستنفر مجلس القضاء في مثل هذا الشهر المبارك من كل عام من أجل إعداد قوائم مرشحين بالسجناء الذين يستحقون أن تشملهم المكرمة الرئاسية السنوية. لا جدال في أن هناك، في السجون العشرات من المحكومين الذين يستحقون لفتة رئاسية, لكن المحتجزين على ذمة حقوق ليسوا من هؤلاء الذين تعلق مصائرهم على مكرمة من “ولي الأمر” أو تقديرات مبعوثي اللجنة (العناية) الرئاسية إلى سجون المحافظات. على أنه من العجيب حقا أن يتجول “رجال العدالة” في السجون ولا توجعهم ضمائرهم جراء وجود العشرات من المواطنين الأبرياء منذ عدة أشهر في السجون؛ في صنعاء وعدن والمكلا، رغم عدم صدور أحكام في حقهم. وهؤلاء هم المعتقلون على ذمة الحراك السلمي في الجنوب.
خلال الأسبوعين الماضيين تلقت “النداء” تطمينات من وزير العدل والنائب العام تفيد بأن مجلس القضاء ومكتب النائب العام يرتبان لإطلاق عدد كبير من السجناء (المحتجزين). كان هذا خبرنا الجيد الذي لم ننشره في هذا العدد لأن الخبر السيئ ورد للتو: لن يطلق سراح أي محتجز لا يلتزم بسداد المبلغ العالق في ذمته على أقساط!