طبيب العناية المركزة

طبيب العناية المركزة

> سامي غالب
حسناً فعلت أسرة الشهيد درهم الراشدي إذ قررت تشييعه إلى مثواه الأخير نهار الجمعة المقبلة. فالقضية الآن في عهدة القضاء وهي محل اهتمام ومتابعة فئات واسعة من اليمنيين في اليمن والخارج، علاوة على منظمات حقوقية ومدنية محلية ودولية، والأهم من ذلك كله أن التشييع يتسق مع مسلك الأسرة الراقي والمتحضر، ولكن أيضاً الحريص والصامد، منذ وقوع الجريمة المروعة نهاية ديسمبر الماضي.
يومذاك اقتحم أقرباء مريض توفي في المستشفى قسم العناية المركزة، للاعتداء على الطبيب درهم الراشدي، وقد بادره أحدهم بطعنة قاتلة مزقت شرايينه.
فر الجناة من المستشفى الذي لم تحرك إدارته ساكناً للدفاع عن أحد أنبغ أطبائها، فيما كان الطبيب الذبيح يغالب جرحه القاتل لبلوغ قسم العمليات في الدور نفسه، حيث يمكن إنقاذه.
في منتصف الطريق سقط مضرجاً بدمائه. توقف قلبه عن النبض. وعندما نقله زملاؤه إلى قسم العمليات كان قد فقد كميات هائلة من دمه. ورغم عملية القلب المفتوح التي أخضع لها فإنه ما لبث أن فارق الحياة بعد نحو أسبوعين.
إن قتل طبيب يمني خسارة فادحة. وفي حالة الراشدي فقد اغتال الجناة، وما يزالون، الكثير من القيم التي جسدها في حياته الشخصية والمهنية. اغتالوا قصة نجاح هي مزيج من عصامية وتفوق ومثابرة ونبل ووطنية.
وفي مجتمع يستنقع في العصبيات والجهالات، والصدارة فيه، كما الحصانة، للفرسان الأقنان: فرسان النهب والتزوير والخطف والتهريب، يصير أمر القصاص من قتلة طبيب طلع من صلب الناس العاديين، مسألة فيها نظر.
على مدى 8 شهور صمدت أسرة الشهيد في وجه المناورات والمساومات الرخيصة، متمسكة بحقها في جلب القتلة إلى العدالة.
لكن القتل في اليمن وجهة نظر. وهو على ما يقول أصحاب الصدارة في دولة الغلبة، دولة اللادولة، أمر اعتيادي، و«أسلوب حياة»! ولذلك تكون المطالبة برد الاعتبار للكرامة الانسانية والانتصار للحياة محض نعرات مناطقية ومناورات حزبية.
وفي حالة الراشدي، فقد توجب على أسرته الكريمة أن تصدر نحو 20 بلاغاً إلى الرأي العام (الهلامي والرازح تحت الجهل والعصبيات) لتذكر بالبديهيات، وإحداها: قيام الجهات الأمنية بواجبها! ولأن «المواطنة» غريبة في بلد يتحلل إلى عصبيات، تم تعيين القتيل على أنه «قدسي»، توطئة لتوزيع دمه على قبيلة القتلة، وإنْ لزم الأمر على القبائل المؤاخية والمؤازرة.
وفي مرحلة من المراحل بدا وكأن أطرافاً في السلطة قررت استثمار دم «الطبيب المواطن» لأغراض سياسية وشعبوية. وبدلاً من جلب المتهم الرئيسي والأشخاص الذين تستروا عليه بعد فراره من المستشفى (وهؤلاء معروفون جيداً للقيادات الأمنية) خرجت حملة أمنية إلى قريته، وقامت بهدم منزله في محاولة خرقاء لإسكات أولياء الدم.
على مدى 8 شهور واصل الطبيب، ولكن من موقع الشهيد، تشخيص أمراض مجتمعه. إلى إدارة المستشفى التي تراخت منذ اللحظة الأولى في الدفاع عن أحد العاملين فيها، بل وسكتت عن اعتداءات سابقة، كشفت قضية «الراشدي» عن سوءات النخب اليمنية، وبينت أن دعوات المدنية والحقوق والتغيير لدى كثيرين ليست سوى مساحيق تجميل، وفي أحسن الأحوال أسلحة عصرية في حروب القبائل.
ولكم بدا مروعاً أن برلمانيين وحقوقيين ومشائخ، من البيضاء ومأرب وإب، اجتمعوا في مايو الماضي لغرض غريب، هو التصدي لغزوات «تعز»، وذلك رداً منهم على إجراء حكومي مقيت اتخذ ضد (منزل) المتهم الرئيسي بالقتل.
وإلى هؤلاء «الممكيجين»، أظهرت قضية الراشدي مدى هشاشة القوى الحزبية اليمنية، بل وانطماس الفروق بينها. فالمتواطئون على دم الشهيد يتوزعون على سلطة ومعارضة. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن المتهم الرئيسي لاذ بمنزل شيخ بارز في حزب الإصلاح. وعلى الرغم من ورود هذه المعلومة في محاضر استجواب المتهمين الذين قبض عليهم، فإن وزارة الداخلية اكتفت بالتحذير من أن أية فعاليات تضامنية مع أسرة الراشدي من شأنها تخويف الجناة وعدم استسلامهم للأمن، لكأن المسؤولين في الوزارة كانوا حينذاك يخوضون جولات من التفاوض مع القتلة! ومن عجبٍ أن هذا الشيخ النافذ أصدر بياناً في مايو الماضي يعلن فيه تضامنه مع الصحف المستقلة التي طالها قمع السلطات وقد سارعت صحف ومواقع محسوبة على المشترك إلى تبييض صورة هذا الشيخ بأعبارة نصيراً للحريات.
 بعد غدً سيشيع جثمان طبيب استئنائي فيما اليمن يدلف وئيداً إلى قسم العناية المركزية.