وهم الدولة

>عبد الباري طاهر
كان "أبو عمار" رجل ثورة ودولة من طراز رفيع. وكان منحازاً لحلم الدولة الفلسطينية. فكثيراً ما ردد -يرحمه الله- أن حلمه أن ينتصب علم فلسطين على خيمة في أشبار من أرض فلسطين. وقد علمته "دولة الفاكهاني"، كما يحلو له أن يطلق عليها، الكثير من إغراءات الدولة، بل ربما نقل تجربته لآخرين.
حدثان أفقد الزعيم الفلسطيني التوازن، ودفعا بالثورة الفلسطينية إلى متاهة المغامرات الخطرة:
أولاً: اجتياح "إسرائيلـ" الجنوب اللبناني وصولاً إلى بيروت، وفي زمن قياسي، في غياب مواجهة حقيقية من قبل قيادة فتح، كبرى الحركات الفلسطينية حينها؛ فقد هرب كبار القادة من الجنوب. هذا من جهة، ومن جهة غياب التقدير السليم لما يجري حينها من قبل جُل المنظمات الفلسطينية وحلفائها في الحركة الوطنية اللبنانية. كنت حينها والعزيز قادري أحمد حيدر، وكنا على تواصل شبه يومي مع قيادات فلسطينية ولبنانية، ومع صحف ومجلات: "السفير"، «النداء»، "النهار"، "الحرية"، "الطريق"، و"الهدف". وكنا نسأل عن الاجتياح "الإسرائيلي"، وكان الرد دائماً أنه لن يتجاوز الليطاني. ويبدو أن ترك قيادة المقاومة للجنوب قد ساهم في تسهيل مهمة الجيش "الإسرائيلي" الذي وصل في بضعة أيام إلى بيروت.
صحيح أن المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية قد صمدت في بيروت، ولكن شدة الحصار والقصف والموقف العربي والدولي كلها أرغمت "أبو عمار" والمقاومة على الانسحاب. وكان الانسحاب من لبنان بداية محنة جديدة للمقاومة الفلسطينية، التي وجدت نفسها بعيدة عن أرض المعركة.
في تونس أصبح باب المساومات السياسية هو الباب الوحيد المشرع أمام "أبو عمار".
كان "أبو جهاد" قد استطاع أن ينسج صلات وعلائق مع الداخل الفلسطيني، الذي بدأ يأخذ زمام المبادرة للمواجهة مع الاحتلال الاستيطاني، ومن اثنتي عشر فصيلاً تكونت قيادة الانتفاضة الأولى 1987، ودعم "أبو جهاد" الانتفاضة. شكلت الانتفاضة، ذات الطبيعة السلمية، والتي انخرط فيها أطفال الحجارة تحدياً جدياً وخطيراً على جيش فاشيٍّ تعوَّد المواجهة مع الجيوش العربية المنخورة لينتصر عليها في ساعات معدودة.
لم يستطع الجيش الأكثر دموية في العالم حسم المعركة مع أطفال يتصدون له بالحجارة. وانفتحت أبواب المساومات السياسية. كان الأمريكيون قد فتحوا خطاً مع الداخل الفلسطيني. وبدأت لقاءات في أمريكا بين حيدر عبدالشافي اليساري والأكاديمي الفلسطيني، وحنان عشراوي، بمباركة "أبو عمار". فحيدر وحنان رفضا التفاوض إلا بعد موافقة المنظمة. وبدأت الأخبار تتسرب عن إحراز المفاوضات نتائج قد يكون لها أثرها. ربما خشي "أبو عمار" من غلبة الداخل على الخارج، فاصطنع قناة أمنية للتفاوض قادها "أبو مازن" (محمود عباس) و"ابو قريع"، وقد أثمرت اتفاقات مدريد واوسلو وما تناسل منها، وهي الاتفاقات التي أدت إلى انقسامات داخل الصف الفلسطيني، وربما كانت ايجابيتها الوحيدة عودة بعض قيادات المنظمة إلى الضفة بقيادة "أبو عمار" تحت بصر "إسرائيلـ" وسيطرتها.
وفي حين بدأ الصدع يكبر في الصف الفلسطيني، وتلاشت الانتفاضة، وبدأت "حماس" في الصعود؛ بدأ اليمين "الإسرائيلي" يصعد أيضاً، فانتشرت المستوطنات، وجرى بناء الجدار العازل كرد على صواريخ "حماس" العبثية، لتصل الأمور إلى محاصرة مقر "أبو عمار" حتى إسعافه إلى فرنسا، ليموت -يرحمه الله- مسموماً، وكان الصدع الفلسطيني قد بلغ مداه، في حين تراجع التضامن العربي. فخلال الحصار المجرم لم يجرؤ زعيم عربي واحد على الاتصال بالزعيم العربي المحاصر.
أما الحدث الثاني والخطير فحرب الخليج الثانية. وقد أيد "أبو عمار" صدام حسين. أضر موقفه هذا بمكانة المنظمة وجر عليها الويلات. وكانت ردود الفعل قاسية، أسهمت في جعل الحصار مزدوجاً، أو على الأقل مسكوتاً عنه لدى بعض الأطراف العربية.
لا ينبغي التقليل من أهمية عودة قيادة منظمة التحرير إلى الداخل الفلسطيني (الضفة الغربية)، وهو حق أصيل وأساسي لكل أبناء فلسطين؛ ولكن خطورة العودة أنها قد استخدمت من قبل "إسرائيلـ" كبديل عن عودة أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في الشتات، وأيضاً استخدمت هذه العودة للمزيد من تقطيع أوصال الضفة ومحاصرة القطاع، ومسلسل حروب الإبادة المفروضة منذ 94 وحتى اليوم.
كان "أبو عمار" -يرحمه الله- مهجوساً بحلم الدولة والعلم وأن يدفن في الأرض الفلسطينية. و"إسرائيلـ" هي من يتهم بقتله. حلمه بالدولة لم يتحقق. وكان استشهاده ثمن الإصرار العنيد على التحرير واستعادة الأرض وعودة اللاجئين، والدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
بقطع النظر عمَّن اشترك في اغتياله بالسم، فإن الورثة -غير النزيهين- قد ركزوا أكثر من اللازم على السلطة تحت ظل الاحتلال الاستيطاني. كان "أبو عمار" يعيش هاجس الدولة، محتفظاً بالكرامة والحق الفلسطيني في الأرض المحررة والعودة والقدس. أما الورثة فإن همَّ المساعدات والقبضة الحديدية على الداخل المخنوق: في الضفة بالاحتلال والأمن والجيش "الإسرائيلي" والجدران العازلة والمستوطنات هو الهم، وفي غزة بالحصار الجائر والاعتداءات المتكررة وبسلطة حماس القامعة والبوليسية المسجاة بمسحة دينية وأخلاقية زائفة.
ففي ظل الحصار القاتل تُلاحق الفتيات بتُهم من نوع "عدم ارتداء الحجابـ". القضية الفلسطينية هي الآن في ظل "دولة" محمود عباس في رام الله، أو بالأحرى في المقر الذي لا يستطيع التحرك منه بدون إذن الأمن "الإسرائيلي"، وفي ظل "دولة" حماس في غزة المحاصرة بـ"إسرائيلـ" ومصر و"حماس" و"أبو مازن" وأمنه الوقائي تواجه خطر حصار الداخل الفلسطيني: عباس و"حماس"، والخارج "الإسرائيلي".
محنة الشعب الفلسطيني كبيرة جداً. فهو من آخر شعوب الأرض تحت الاحتلال، واحتلاله استيطاني عنصري مُلغ للهوية والوجود. وهو محاصر بخذلان عربي، وبسلطتين متعاديتين حد غياب التمييز بين ما هو أساسي وثانوي. بل إن الصراع "الفتحاوي" "الحمساوي" له الأولوية على الصراع مع محتل الأرض وملغي الهوية.
لقد غطى الصراع بين قيادتي "فتح" و"حماس" على صراع الشعب الفلسطيني مع المحتل "الإسرائيلي" ذي الطبيعة النازية والعنصرية. فخلال حرب الإبادة التي استمرت بضعة أسابيع على غزة صمت "أبو مازن" صمت القبور، وسكتت الأنظمة العربية كلها، وكان المدافع عن غزة تركيا، وقامت مصر حسني مبارك بدور ايجابي لصالح الحصار على غزة.
لم يعد الحديث عن الأسرى في السجون "الإسرائيلية"، الذين يتجاوز عددهم اثنا عشر ألفاً! ولا يدور الحديث عن حرب الإبادة التي لم يجف دمها! ولا عن الاستيطان المتواصل، ولا عن تهويد القدس! وإنما الصراع الدامي والمميت هو الذي يجري بين زعامتي "فتح" و"حماس"، وهما سلطتان قمعيتان بامتياز، يتقاسمان مع الاحتلال "الإسرائيلي" وظيفة قمع الشعب الفلسطيني، وعيبهما العجز عن التفوق على "إسرائيلـ" في القمع.
لم يتحمس ولم يهتم "أبو مازن" برفع قضية ضد مجرمي الحرب "الإسرائيليين"، وربما اعتقد أن "حماس" هي السبب في الحرب والحصار ضد غزة.
وبصدق فإن صراع "حماس" و"فتح" موضوعياً يخدم "إسرائيلـ"، ويغيب إرادة الشعب الفلسطيني ويسهم في إضعاف حقه في الحرية والحياة. إنهما يتقاتلان على سلطة موهومة.
أما الزعماء العرب فإن الصراع الفلسطيني يعفيهم من أسئلة قضية طالما قضّت مضاجعهم، وعرضت أنظمتهم الهشة للخطر.
نماذج الدولة العربية القبائلية والسلالية والأسرية والعسكرية خدمت "إسرائيلـ"، وقدمتها للعالم كواحة للديمقراطية في بيئة عربية متوحشة وخارج العصر. أما اليوم فإن الصراع الفلسطيني - الفلسطيني يزكي الاحتلال والاستيطان "الإسرائيلي"، وكان يقول للجميع بلسان عربي مبين إن الفلسطينيين ليسوا جديرين بدولة، و... و... و...
والحقيقة أن طموح "إسرائيلـ"، بيمنها ويسارها الصهيونيين، يتجاوز رعونة "أبو مازن"، وطيش وصبيانية قادة "حماس"، وخنوع وتواطؤ النظام العربي المتخلف والهالك.
عيب مبادرة الملك عبدالله ليس آتيا من مصدرها الأساس فقط، ولا حتى من سلامة نيتها، المؤدية حتماً إلى جهنم؛ وإنما عيبها الحقيقي يتجلى في عدم إدراكها للطموح "الإسرائيلي" الذي لا يقف عند تخوم يهودية الدولة "الإسرائيلية" اليهودية بالمعنى العنصري، ولا عند حدود ابتلاع الأرض الفلسطينية وتدميرها، ولا عند حدود الاعتراف بالدولة اليهودية، وإنما المطلوب القبول بالهيمنة "الإسرائيلية" كقيادة للمنطقة، أصالة ونيابة. ويبدو أن أنموذج التطبيع مع مصر قد أعطى الدرس الواعظ والبليغ.
وتعرف "إسرائيلـ" أن خلافات الحكومات العربية مع أمتها وشعوبها أكبر من خلافها مع "إسرائيلـ"؛ لذا فهي، وكبعض الدول الأفريقية، بحاجة إلى الحماية "الإسرائيلية".