أنت في اليمن يا حسن!!

أنت في اليمن يا حسن!!

منصور هائل
هو القائل: من عجائب آخر الزمن أن يغترب السوداني في اليمن وهو الذي عاد إلى السودان خالي الوفاض من كل شيء باستثناء حصاد وفير وكثير من الغرائب والعجائب التي ستظل تبرق بالتماعاتها الضاحكة في جراب ذهنه ووجدانه، وفي جيوب ذاكرته، ما بقي على قيد الحياة.
ومن غير المستبعد أن يفعلها ويكون حكيماً على غير عادته، ورحيماً بأهله المتطلعين لتورث بعض ما اكتسب في دنياه.
من غير المستبعد أن يفلح في توريث أنجاله وأحفاده كنوزاً لا تخطر على بال، إذا ما اعتكف وانصرف بمثابرة لإنجاز مهمة توريق وتوثيق كنوز العجائب التي أغدقت بها الدنيا عليه وهو في اليمن خلال فترة إقامته المديدة في هذه البلاد "السعيدة".
بالأمس فقط تذكرته، وتجسد قدامي بكامل أبهته الساخرة، وكان ذلك بعد أن فرغت من قراءة رسالة خاصة جداً، بطريقة خاصة جداً، حيث تكورت وتقوست كيما أغلق كافة مسارب النظر لما كنت أقرأ على ذلك الذي كان يجلس بجواري في "المقيلـ".
تذكرته صاهلاً، مجلجلاً بالضحك، وكنت ذاهلاً حينما وجدتني أسمع جاري يناقشني في أدق التفاصيل التي قرأتها، ويطبطب على كتفي: "يحصل هذا في أحسن العائلات.. وعليك ألاَّ تكترث بكلام النسوان. أما بصدد تلك النقطة... و... إلخ".
كان يحدثني بخصوصية مرعبة عن أخص خصوصياتي، وأفقدني صوابي وطيَّر عقلي بعيداً، بعيداً.. إلى السودان.
تضرعت إلى الخالق أن يطيل عمر أستاذي وصاحبي حسن محجوب، وتمنيت أن ألتقيه، وأساوره في هاجس الاغتراب إلى السودان، وألتمس مساعدته في تمكيني من ذلك.
وارتجت أعماقي بضحك صاخب صامت وأنا أستعيد ما كان عليه حاله ذات يوم، حين كان متلهفاً لأخبار عائلته في الخرطوم وتسلم رسالة من زوجته وفض مظروفها وهو يهم بصعود حافلة كانت في طريقها إلى الحي الذي يقيم فيه بصنعاء.
هو لم يصبر إلى حين وصوله إلى البيت ليتمتع بقراءة رسالة الحبيبة على كاس شاي بالنعناع الأخضر، بل اندفع يقرأ الرسالة لاهثاً، والتهم محتوياتها بسرعة، وأعاد قراءتها وأمعن النظر ملياً في كلمة طمست بالحبر الأسود، أثارت حيرته وفضوله.
أعيته محاولات فك أحرف الكلمة الممسوحة، واستغرقته الحيرة الحارقة، ودهمته إغماءة قصيرة، ربما كانت غفوة، ولم يفق إلا على من كان شاركه ماراثون اللهاث المتقطع، المتسارع، ويلكزه من الخلف بإلحاح ويسأل: "أستاذ، هل عرفت ما هي الكلمة الممسوحة؟"، وأشار عليه بأصبعه إلى الدائرة السوداء في الرسالة: "أستاذ ما المقصود من هذه الحركة؟!".
ودارت به الدنيا، ودار وحملق في الجالس على المقعد الخلفي وهو ذاهل فاغرا فاه، ولم ينتفض من الغضب بقدر ما انشلَّ وتجمد كما هي عليه عادته عندما يرتطم بهكذا مواقف: "أنت في اليمن يا حسن! لا عجب أن يحدث هذا لأي سوداني يختار الغربة في اليمن".
لقد اشتقت للاجتماع بالصديق حسن محجوب، واستحوذت عليَّ مغامرة الهجرة إلى السودان لأخصه بسبق صحفي خطير ومثير لا يحلم به أي صحفي، لأنه "رفيق" وهو الأحق من غيره بالاطلاع على التطورات المذهلة التي طرأت على ذلك النوع من الكائنات التي ينتمي إليها (الخبير) الذي كان في الحالفة!
أعتقد أني سأكون في السودان بمنأى عن حصار "الثوابت الوطنية"، وسوف أفشي لصاحبي بمعطيات التطورات التي طرأت على ذلك النوع من الكائنات (الخبراء) في التلصص واختراق السطور وما وراءها، فقد انتشروا وكثروا وتفشوا في الساحات والحافلات و"المقايلـ" وأرصفة التسكع والنوم والمصحات والنقابات والأحزاب ومراكز صناعة القرار ومنافذ تهريب الأسلحة والمخدرات والأطفال ومحاضن تفقيس الصحف وتفريخ الأحزاب، واستنساخ البطولات وتسويق السفاهة والتفاهة والابتذال.
وسأضع بين يدي صاحبي من التطورات والإنجازات على هذا الصعيد ما يجعله يقتنع بأن ذلك الذي كان في الحافلة لم يعد، بحساب هذه الأيام، أكثر من متلصص ظريف، مدر للضحك، ومنشط لذاكرة الأيام الخوالي.
mansoorhaelMail