عن عارنا القومي.. الآن-محمد الحكيمي

لا تعرف "فاتن" حتى الآن سوى شيء واحد في الحياة، هو: الشعور بالذل.
يبدو ذلك الشعور مريرا ومؤذيا بالنسبة لطفلة بريئة لم تتجاوز العاشرة من العمر، أُجبرت على العيش في الهامش.
لا شيء هنا يبعث على التفاؤل. فالحياة قاسية بالنسبة لـ"فاتن" (وهذا ليس اسمها الحقيقي)، فهي تعمل منذ 3 سنوات بائعة أقلام متجولة في شارع حدة بالعاصمة صنعاء.
إلى جانبها يعمل شقيقها، الذي يصغرها بعام، من أجل إعالة إخوتهم الخمسة: 3 إناث واثنان من الذكور، إلى جانب أمهم.
بدأت مشقة "فاتن"، كطفلة مضطرة للعمل في الشارع، منذ نهاية العام 2006، عندما ألقت السلطات السعودية القبض على والدها، حين كان يعمل في إحدى الشركات بالمملكة، نتيجة عدم تمكنه من دفع الديون المُقرة عليه. هو حتى الآن ما يزال معتقلاً في أحد سجون المملكة، وقد انقطعت أخباره عن أسرته الفقيرة التي لا تقوى على تسديد ما عليه. ومنذ ذلك الوقت اضطرت زوجة الرجل لإيجاد مصدر دخل لأولادها السبعة، لكنها فشلت، ولم تجد غير ابنتها الكبرى (فاتن) لتوكل لها مهمة إعالة 6 أطفال سيتوجب عليهم على الأرجح العمل في الشوارع اقتداءً بأختهم لتحمل المسؤولية، ومن ثم الحرمان من التعليم، دون العيش حياة هانئة.
كل ما تجنيه "فاتن" من دخل، لا يتعدى مبلغ 500 ريال في اليوم الواحد، وهو ما يعادل قرابة دولارين فقط. وستقول لك "فاتن" إن ذلك المبلغ هو الذي تعود به نهاية اليوم، بالرغم من مساندة شقيقها في وظيفة بيع الأقلام.
لعل "فاتن" واحدة من حوالي 30.000 طفلة وطفل من أطفال الشوارع في البلاد، وربما تأتي ضمن الأربعين بالمائة من الأطفال الذين يأوون كل يوم إلى مساكن أسرهم، باعتبار أن نسبة ال60% المتبقية يعملون وينامون في الشوارع كونهم بعيدين عن أسرهم التي لا تكون مقيمة في المدينة التي يعملون بها، طبقاً لتلك الدراسة الحكومية التي أطلقها المجلس الأعلى للأمومة والطفولة في مطلع يوليو من العام الفائت 2008.
مصدر الإحباط الكبير هو أن عدد الأطفال الذين يعيشون معاناة "فاتن" في ارتفاع مستمر تعلو مؤشراته بصورة متواصلة. والأكثر إحباطاً هو نسبة الفتيات اللواتي توكل لهن مشقة إعالة أسرهن تماماً.
يعود معظم الأسباب التي أدت إلى لجوء الفتيات إلى الشوارع -بحسب التقرير الحكومي- إلى انتشار الفقر وكثرة الإنجاب وانعدام الخدمات الاجتماعية، والأهم من ذلك تخلي الدولة عن دعم الفقراء.
الكارثة أن اليمن صادقت (بثقة) على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل في 20 نوفمبر 1989، والتي ترى أنه ينبغي إعداد الطفل إعداداً كاملاً ليحيا حياة فردية في المجتمع بروح المثل العليا المعلنة في ميثاق الأمم المتحدة، وخصوصاً بروح السلم والكرامة والمساواة.
ما من كرامة يمكن لـ"فاتن" أن تشعر بها وهي تتألم كل لحظة تجاه نظرة الاحتقار والدونية التي تتلقاها من المارة باختلاف شرائحهم. وما من مساواة يمكن الاعتراف بها. ذلك أن "فاتن" لم ترتد المدرسة قط، أو لنقل لم تتمكن من ذلك، برغم الحديث الرسمي عن إلزامية التعليم الابتدائي للفتيات ومجانيته.
لننسَ الآن أمر التزام اليمن بالمادة (28) من اتفاقية حقوق الطفل (حق الطفل في التعليم)، والمادة (16) (حقه في الانتفاع من الضمان الاجتماعي)، وكذا المادة (27) (حقه في مستوى معيشي ملائم)؛ فالحديث عن ذلك يعني ببساطة الحديث عن احترام اليمن لاتفاقياتها أمام العالم، وبعبارة ملائمة: استهتارها بحق الطفل قبل كل شيء.
أكثر ما يؤلم هو أن "فاتن" لا تحلم ككل الفتيات بارتداء فستان جديد، أو الحصول على دمية أنيقة، ولا تفكر حتى بتذوق قطعة حلوى أو التنزه برفقة أشقائها.
تصوروا أن كل ما تتمناه الطفلة هو فقط ألا يصادفها في عملها من يسيء إليها من المارة ممن يتعمدون إلقاء الشتائم، ولا ترجو التعرض للعنف والاعتداء بالضرب والتحرش، الذي تعرضت له 4 مرات طيلة عملها.
وأكثر من ذلك، لا تتمنى "فاتن" أن تقبض عليها الشرطة ذات يوم بتهمة التسول، كما حدث لطفلة قبض عليها قبل شهرين ولم تعد إلى شارعها حتى الآن.
أسوأ ما في الأمر، هو أن معظم هؤلاء الأطفال يعملون تحت دافع اضطراري من أجل إعالة أسرهم، وهو أمر لا يمنح المجتمع سوى قيمة خلاقة.
لكن الأسوأ من ذلك هو ذلك التشوه الاجتماعي الذي يتعرضون له، من استغلال وسرقة وضرب ومضايقات واعتداء جنسي يصل حد الاغتصاب.
علينا أن نعترف بأن ذلك عار قومي تجاه من يتطلعون الآن إلى المستقبل. ويبدو البلد برمته متواطئ في عملية تجاهل كبرى تجاه تلك الشريحة.
يبقى الواضح أن الحكومة التي لا تكترث للمستقبل، لا يعنيها الالتفات للجيل الذي سيكون فيه مهما كلف الأمر.
 [email protected]