تراث التعددية!

تراث التعددية! - إلهام مانع

صوتها هو أكثر ما يلفت انتباهي وأنا أستمع إليها.
صوتها المندهش.
صوت أروى عثمان.
يندهش دوماً كلما طرحت عليها السؤال ذاته، مرتين: مرة في زيارتي الميدانية إلى اليمن عام 2006، ومرة في حديثنا الأخير عبر الهاتف.
أسألها: ما سر كل حرصك هذا على جمع التراث اليمني؟
أسألها وأنا صادقة في حيرتي.
ستفهمون حيرتي عندما تدركون أن أروى عثمان استثمرت كل ريال جنته بعرق جبينها في جمع الثراث اليمني.
بدأت في جمع موزاييك المقتنيات والأزياء الشعبية منذ أكثر من عشرين عاماً.
يوماً بعد يوم، سنة بعد سنة.
كانت تسافر من منطقة إلى أخرى في أرجاء اليمن، من قرية إلى قرية، على حسابها الشخصي، وتجمع، وتجمع، وتدفع من جيبها، وهمُّها أن تقتني نماذج من التراث اليمني.
لم تفكر يوماً في أن تدخر مبلغاً لنفسها أو لبنتيها. لم تفكر يوماً أن تشتري لنفسها سيارة، شقة، أو بيتاً، اكتفت باستئجار شقة تبحث فيها عن شرفة تحتسي فيها قهوتها المرة. آه! ما أصعب الإنسان عندما يؤمن بهدفه!
الحقيقة أنها لم تفكر إلا في جمع ذلك التراث. ونجحت فعلاً عندما أسست بيت التراث الشعبي، فَخُرها، الذي أرادت أن تحوّله إلى متحف شعبي، ولم تندم، رغم غصتها.
لمَ كل هذا الحرص على جمع التراث يا أروى؟
أروى عثمان، الكاتبة، الباحثة، والأديبة، رائدة نسائية يمنية.
طريقك كان سيكون سهلا لو اخترت مهمة أيسر، لو تحولت إلى هدف آخر.. لو...؟
وهي...؟
هي تنظر إلى محدثتها، ودهشتها تسيل من صوتها.
ترد: "تصدقي أني عندما اُسأل هذا السؤال لا أعرف الأجابة. لكن مع الوقت بدأت أفهم".
أتذكرون يوم قلتُ يوماً إن "الأسوَد أصبح لونَ الحياة"؟
تحول إلى السواد مع انتشار مد الإسلام السياسي، بأطيافه السنية والشيعية. الأسود ينتشر، يكره الألوان، يكره التنوع، ويصر على لون واحد، واحد، واحد لا طعم له، يدعو إلى الموت فيتحول إلى الحياة، ويقتلها، ويناشد الإنسان أن ينحر روحه، وعيناه منبهرتين.
وأروى عثمان انتبهت، انتبهت إلى أن ألوان التراث اليمني بدأت تختفي.
تقول: "عرفت حينها الجواب على السؤال لماذا؟ أنا نشأت وتربيت في منطقة في تعز بالقرب من سوق الصميل، منطقة تراثية، كان فيها دائما كرنفال من الأزياء والرقص والموالد والنساء، كرنفال من الألوان. ومع الوقت بدأت ألاحظ أنها تختفي، تذوب، وتتراجع. وتساءلت: لمَ بدأتْ الورود تختفي؟ فأصبح مثل الهم".
وهمُّها أصبح هدفها.
تقول: "أريد أن يرى العالم ألوان تراثنا الزاهية. أريده أن يرى أننا كنا دوماً نحب الحياة، نحبها وألوانها المتعددة".
ولأنها أدركت ذلك، لم يكن غريبا أن تتحول هدفاً للهجوم ممن يدعو إلى السواد.
كان طبيعياً أيضاً أن تتعرض للتهديد من سلفيين غاضبين عندما تمكنت في عام 2005 من إنجاز أولى فعاليات بيت الموروث الشعبي في مهرجان المدرهة (الأرجوحة)، تقاليد الحجيج، تقاليد تكاد تندثر، تحتفي بالحجاج بالغناء والأهازيج والمدرهة (الأرجوحة)، ويشترك فيها الرجال والنساء والأطفال معاً.
كنا نغني معاً، لم نرَ في ذلك جَرحاً في ديننا.
نرتدي أزياءنا الشعبية الملونة، لم نرَ في ذلك جرحاً في إيماننا.
وكنا نحتفل معا، رجالا ونساء، ولم نرَ في ذلك هتكا لأعراضنا.
كيف غابت ذاكرتنا؟ ثم كيف زالت الألوان، فأصبح الأسود لون الحياة؟
بيت الموروث الشعبي بقي الدليل على أن التراث اليمني كان دائما ملوناً، متعدداً، محباً للحياة كان الشاهد. وأروى عثمان نجحت في أن تجعله قِبلة للسياح، وتحوله في الوقت ذاته إلى مؤسسة بحثية تعنى بإنتاج الدراسات والبحوث عن التراث والفلكلور والثقافة الشعبية.
ولذا كانت لوعتها فاجعة وهي ترى بيت التراث يختنق أمام عينيها. فالبيت، الذي وجدته بعد جهد جهيد، بدأ يتهالك بسبب موقعه المطل على مذابح سوق القاع، محاصر بأكداس القمامة من الأمام، وروائح الذبائح، من مواش ودجاج وأسماك، من الخلف، ومهاجم من فئران انتشرت من بيت مهجور قريب.
فاجعة.
الشاهد الحي على تراث يكاد ينقرض، تكالبت عليه القوارض.
فكرت في أن تغلقه أكثر من مرة، بسبب الظروف المادية الصعبة وشحة مواردها.
لكن قلبها لم يطاوعها. وتبحث عن الريال، تجمعه، كي تضعه في البيت من جديد. قربة مخرومة. تحتاج إلى دعم حكومي وغير حكومي.
الدعم الحكومي جاء -والحمد لله- أخيراً. فشكرا للدعم.
لعله ينصفها.
لعله يمُكّنها من أن تجسد حلمها واقعاً إلى متحف عريق يحفظ ذاكرتنا.
ليته يفعل!
فحلمها مرآة لذاكرتنا.
كي لا ننسى،
لا ننسى،
أننا يوماً كنا نحب الحياة.. ونعشق أطياف ألوانها.
[email protected]