محاكمة الرئيس المتجبر: الهش

محاكمة الرئيس المتجبر: الهش - منصور هائل

مطلع الأسبوع كان الرئيس الأسبق علي ناصر محمد وجبة دسمة في موائد النميمة وتكاياها، وكان ذلك بمناسبة وصوله إلى الخرطوم للتضامن مع الرئيس السوداني وتصريحه بأن استهداف البشير هو استهداف للأمة، ومؤامرة لضرب الأوطان والشعوب.
ولما كانت موائد النميمة عامرة ومتنوعة، وتستوعب الكثير من التنويعات فقد انضاف الرئيس علي عبدالله صالح إلى القائمة.
وكما جرى التذكير بأحداث 13 يناير 1986 الدموية في عدن يوم كان علي ناصر هو الأمين العام ورئيس البلاد، فقد جرى استدعاء أهوال حروب صعدة المستمرة في ظل رئاسة الرئيس صالح مع الإشارة إلى أن الرئيس صالح كان الأحذق والأسبق في إعلان الوقوف مع زميله البشير بالانطلاق من ذات المبررات التي ساقها ناصر.
وفي كل الأحوال، تظل خلايا النميمة السياسية اليمنية سيدة الموقف والساحة و«القضية» فهي الأكثر نشاطاً ويقظة ولا تنام حتى عندما تنام، فهي تغمز وتضمر وتمارس الإسقاط حتى عندما تبدو منهمكة على تفحص صحيفة اتهامات محكمة الجنايات الدولية الخاصة بالبشير.
وكثيراً ما تنفلت خلجات اللسان لتفضح خفايا الأعماق التي تؤشر -مثلاً- إلى غياب مدونة ضحايا الحروب الخمسة في صعدة عبر تسخين النقاش وتركيزه حول 300 ألف قتيل من ضحايا الحرب في دار فور، حسب الأمم المتحدة.
وبما أن الملمح الطافح من موائد النميمة ينضح بكراهية عمياء لشخص الرئيس الذي ترتبط بشخصه كافة الكوارث والمصائب، فإن هذا المنطق لا يختلف عن ذلك الذي يقول بأن استهداف الرئيس هو استهداف للوطن والأمة و... إلخ.
والمضحك هنا أن الرؤساء والبؤساء يقفان على نفس الخط، ويتوحدان في الرثاثة، وذلك ما يدعو إلى الرثاء، وما أقبح تلك الطرفة التي تقول بأن محاسبة رجل الدولة تمس بالأمة! وما أتعس الأمة التي تختزل إلي فرد واحد.
وبدلاً من الاستغراق في الكوميديا السوداء كان من الأجدر النظر في ما تتيحه القضية المثارة ضد الرئيس السوداني من فرصة جديدة لإخضاع الرؤساء للقانون في الساحة الدولية، بعد عجز الساحة.القضائية الوطنية عن بلوغ درجة كافية من النضج لا تمام هذه النقلة الحقوقية حسب الكاتب والمؤرخ الاجتماعي فالح عبدالجبار.
وفيما شدد فالح على حاجتنا إلى وضع أكثر من رئيس عربي لامتحان القانون، وحاجتنا إلى فصل الرئيس السياسي عن الرئيس التاجر، وفصل الرئيس التنفيذي عن الرئيس القضائي، بغية الحد من قدرة رأس «الدولة» على خرق القانون، فقد شدد على الحاجة لـ«ثورة مجيدة» كتلك الثورة الانكليزية في القرن السابع عشر التي أخضعت العرش البريطاني لمحاكمة برلمانية قضت بقطع رأس العاهل بتهمة خرق القانون، وكانت الحجة الفقهية هي الآتية: إذا كنت أنت نفسك تخرق القانون فكيف تطلب من رعاياك طاعته!
والحاصل أنه في ظل غياب المؤسسات المدافعة عن القانون، والمفوضة بالمحاسبة والمساءلة لأيٍّ كان، سوف يظل باب الخرق والانتهاك مفتوحاً، وإلى جانب ذلك سوف ينفتح باب التدخل الإنساني في الدفاع عن الحق المقدس في الحياة.
وسيحدث أن ينتطح العالم لردع الرؤساء «حقنا» فمن لا يربيه أهله في البيت يتكفل «الآخرون» بتربيته وردعه، وذلك ما يحدث هذه الأيام بالضبط وحرفياً.
ثم إن تلك الشعوب التي أخضعت رؤساء دولها وحكوماتها لمحاكمات في قضايا أخلاقية وفساد هينة بالقياس إلى ما يحدث من فضائح مروعة في بلداننا، لم تعد تطيق التعايش والتصالح مع جريمة اختطاف وذبح دول وشعوب أخرى من قبل دكتاتور بائس أو شخص رئيس تعيس يستمد «شرعيته» من خرق القانون والسيادة: حق الحياة المقدس.
وفي هذا المنحى يمكن استدعاء ما قالت الروائية ايزابيل الليندي في مذكراتها: «إن رفع الدعوى في اسبانيا ضد ديكتاتور تشيلي السابق بينوشيه كشف بما يشبه السحر أن هذا المتجبر كان هشاً، وأن هذه الفجوة فتحت باب التغيير. إلا ما أحب هذه الهشاشة!».
< هامش: اقرأ: فالح عبدالجبار وجماليات الدعوى ضد ريئس.