أي الرجال فقدنا

أي الرجال فقدنا - عبدالباري طاهر

عالمان جليلان ائتلقا في حياتنا الفكرية العلمية والادبية وغادرانا بتقارب عجيب. محمود امين العالم ورفيقه العلامة الجليل عبدالعظيم أنيس، نشآ معاً والتحق كل منهما بالمنظمات الشيوعية منذ الاربعينيات، واعتقلا وتعرضا للملاحقات والتشريد والنفي.
تأسسا تأسيساً علمياً وادبياً وانخرطا في النضال السياسي وتبنيا الاشتراكية منذ ما قبل منتصف القرن الماضي.
نشأ العالم في أسرة أزهرية فأبوه وأخوه أحمد شوقي قد حرصا على تربيته تربية أزهرية صارمة، وكانت خطواته الاولى نحو الفلسفة المثالية التي أراد بها نقض عرى المادية، وفي الطريق عثر على كتاب المادية ومذهب النقد التجريبي فقرأه قراءة محب الحكمة والباحث عن الحقيقة. كتابه القيم والاثير فلسفة المصادفة تعبير عن عمق التحول المعرفي، وتحويل الفلسفة والتفكير إلى اداة تغيير كتعبير ماركس.
العالمان أتيا من حقل الطبقة الوسطى أبناء الثورة المجهضة والمشتعلة تحت الرماد: ثورة 1919 التي تعلم منها غاندي، ومن قادتها العظام سعد زغلول، ومن شعارها الخالد «الدين لله والوطن للجميع»، ووحدة جناحي الامة: المسلمين والمسيحيين.
انصرف الطالبان المجدان للعلم، وتتلمذا على الاباء جيل الرواد: طه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وشبلي شميل وانطوان فرح وعلي عبدالرزاق واسماعيل مظهر ويعقوب صروف وزيدان وعشرات غيرهم، وعندما اشتغلا بالسياسة وانخرطا في المنظمات الشيوعية كانا يجسدان الربط الجدلي والعميق في الفكر العلمي الذي يدرسانه، والمعرفة التي ينهلان منها، وتحويلها إلى أداة ثورية ومنهج للتفكير والتّغيير في آن.
منذ النشأة ارتبط الطالبان بالتعليم الحديث ليشقا طريقهما إلى الجامعة والتعليم الحديث. درس العالم الفلسفة بينما درس انيس الرياضيات، وتخرجا ودرَّسا كمعيدين كل منهما في تخصصه. حبهما للصحافة والكفاح بالكلمة والمعرفة ورغبتهما العارمة في «قتل الادب» وضعاهما في مواجهة مع الآباء من جيل الرواد. يؤرخ المفكر المصري صلاح عيسى لحياة الرجلين بأنهما قد تعشقا معاً حب الصحافة فراحا يكتبان في نفس الصحف والجرائد: روز اليوسف، الجمهورية، وتفرغا معاً للعمل في الصحافة منتصف الخمسينيات عقب فصلهما من الجامعة.
ورغم أن الرجلين كانا من المتحمسين للثورة والتغيير والاشتراكية والحرية والوحدة، إلا أن استقلالهما التنظيمي ومنهجهما العلمي قد قاداهما إلى السجون والفصل والتشريد اكثر من مرة.
محاضر التحقيقات التي أجرتها المخابرات المصرية مع الدكتور عبدالعظيم انيس في فترات اعتقاله تشهد على مبدئية وثبات وصدق هذا المفكر والمناضل الذي دافع عن خط الثورة وهو في غياهب السجون. فقد انتقد أنيس نهج الوحدة الخاطئ الذي انتقده أيضاً الزعيم جمال عبدالناصر ولكن بعد خراب مالطة. فقد انتقد أنيس وجود المملكة المتوكلية اليمنية في الوحدة الثلاثية، وانتقد الوحدة التي تلغي الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية والفكرية، ولا تراعي الخصائص والظروف لكل قطر، وقد قتل شهدي عطية الشافعي وهو يهتف بحياة الزعيم ناصر والاجراءات الاشتراكية.
أما الاستاذ العالم فقد ألف كتيبه الصغير الماركسيون المصريون والوحدة العربية، والعالم كعالم موضوعي ونزيه لم يقصر نقده على تجربة ناصر أو الحركة القومية بصورة عامة، وإنما امتد نقده للماركسيين العرب في قضية الوحدة.
تصدى أنيس والعالم لوظيفة الادب، وردا على طه حسين والعقاد بكتاب شهير (في الثقافة المصرية)، ورد عليهما العميد الرائع «يوياني فلا يقرأ». أما العقاد فلم يرد عليهما وإنما مسكهما متلبسين بجريرة الشيوعية كرده القاسي، والمتوعد.
محنة هذين العلمين والعالمين أنهما رغم نبوغهما وتفوقهما في التخصصات العلمية والمعرفية، وتدريسهما في الجامعة المصرية مبكراً، وفي أرقى الجامعات في لندن وفرنسا ولبنان، فقد وجدا نفسيهما في السجون والمنافي، وفي أحسن الاحوال خارج الوظيفة العامة، وتحت طائلة مقصلة تهم الخيانة والعمالة والردة.
وقد ظلت هذه التهم الجائرة تلاحقهما حتى آخر رمق في حياتهما، وتلاحق اليوم العديد من أنصار العلم والابداع.
لم أتشرف بمعرفة أنيس وهو من أسرة مبدعة فأخوه محمد أنيس أستاذ التاريخ في مصر والذي تربى على يده جيل من المؤرخين في مصر والوطن العربي، لعل من أبرزهم الدكتور مصطفى سالم، وأخوه إبراهيم أنيس استاذ اللغويات. أما استاذنا الجليل محمود أمين العالم فقد تعرفت عليه اولاً في فرنسا أثناء تدريسه في جامعاتها واصداره إلى جانب رفاقه ميشل كامل وأديب ديمتري «اليسار العربي»، وأتذكر عندما تبنى العراق قضية التضامن مع المثقفين المصريين المعارضين لاتفاقات كامب ديفد، وعقد لقاء تضامني في فرنسا دعي إليه العالم ومحمود السعدني وعبدالمنعم الغزالي وامير اسكندر وعشرات غيرهم، وقد تحدث في اللقاء الدكتور سعد حمودي رئيس اتحاد الصحفيين العرب حينها، استعداد الرئيس العراقي صدام حسين توفير لقمة العيش الكريم للمعارضة المصرية في الخارج، رد عليه العالم بغضب إننا لا نبحث عن العيش، ومعارضتنا للنظام المصري سياسية وموقف قومي.
 في العام 82 حضر العالم إلى بيروت يحمل رسالة من خالد محيي الدين في الذكرى الاربعين لاستشهاد المناضل الفلسطييني ماجد أبو شرار الذي اغتالته المخابرات الاسرائيلية في ايطاليا، وقد عقد مهرجان خطابي في الجامعة العربية. كنت حاضراً والصديق قادري ابن حيدر، وعندما انتهى العالم من قراءة الرسالة التأبينية والتضامنية نهض الاستاذ محسن إبراهيم الامين العام لمنظمة العمل الشيوعي حينها، مطالباً المعارضة المصرية وحزب التجمع تحديداً بإسقاط النظام المصري خلال مدة لاتكفي لإبلاغ الرسالة، وقابل العالم تحدي محسن ابراهيم بالابتسامة.
ترك العالم الذي بقي على تواصل مع رفاقه في اليسار حتى آخر لحظة، فقبل بضعة أشهر أجرت صحفية من «المصري اليوم» مقابلة مع الاستاذ العالم وامتدت يدها إلى أوراق كانت امامه لتكتشف ما يشبه الخطة لتحالف معارض يقود الاضرابات العمالية، وفجرت قنبلة بنشر الخطة أو البرنامج المكتوب بخط العالم، وأثيرت ضجة في الوسط السياسي الصحفي على السواء.
ترك العالم ثروة فكرية كبيرة تقترب أو تزيد على عشرين مؤلفاً في الفلسفة والمنطق والاجتماع والسياسة والنقد الادبي. فهو غزير في الكتابة تغطي ابحاثه وكتاباته العديد من المجلات والصحف المصرية والعربية والعالمية، وكتابه الدوري المهم «قضايا فكرية والذي أصدر منه ما يزيد على عشرين عدداً، يعتبر من أهم الاصدارات الفكرية العميقة، ودشنت قضايا في غاية الاهمية، وهي مرجع مهم للباحث والدارس في القضايا التي كرست لها «اعداد متخصصة».
وانغمس رفيقه عبدالعظيم انيس في رسالة التدريس، وابتعد بمسافة عن الارتباط التنظيمي منذ مرحلة مبكرة، ولكن واصل رسالته الكفاحية في نشر أنوار الحداثة والتجديد والبحث العلمي.
لم يحتف أنيس بجمع ابحاثه ودراساته، وقد أصدر كتابه القيم والمهم «علماء وأدباء ومفكرون» عن مؤسسة الابحاث العربية، وقد احتفى بالكتاب الفقيد الكبير والشهيد حسين مروة وقدم له. منوهاً بأهمية المؤلف ومكانة الكتاب. والكتاب يدلل على العقلية العلمية والرؤيا النافذة للعالم أنيس.