"صحون" و"مطايبـ" و"دسوت" المشترك تقود الحراك الجنوبي.. تحالف المعارضة مع السلطة في ضرب الاحتجاجات

"صحون" و"مطايبـ" و"دسوت" المشترك تقود الحراك الجنوبي.. تحالف المعارضة مع السلطة في ضرب الاحتجاجات - نبيل سبيع

في مقابلة صحفية معه نشرتها صحيفة "الناس" يوم 11 أغسطس الماضي، قال القيادي الإصلاحي اللامع محمد قحطان إن "التداعي الوطني" المتمثل في الفعاليات المطلبية الشعبية هو مخرج البلاد الوحيد من حالة الأزمة التي تمر بها. هذا الحديث أتى في إجابته عن السؤال رقم 19 من المقابلة. وقد كانت إجابة قصيرة للغاية انتهت بنقطة، ليتوجه إليه محاوره عبدالله مصلح بالسؤال رقم 20:" ألا تخشى من هذا التداعي الوطني خاصة في ظل عجز المشترك عن إلجام الحراك الجنوبي؟". أجاب قحطان:" والله يحق لأي شخص أن يعتقد بأن المشترك قد عجز أو أثبت عجزه فهذه رؤيته، لكن من هو مصر على هذه الرؤية نقول له: دوننا الأيام، وكما يقول المثل (أمام الغزالة قاع جهران)". سؤال صريح وواضح جدا، وقد عززته صراحة ووضوح إجابة القيادي الإصلاحي البارز في التيار المحسوب على الانفتاح داخل الحزب الإسلامي الكبير. وفي الواقع، فإن دور المشترك في "إلجام الحراك الجنوبي" غير مشكوك به، ولا حاجة أبدا للذهاب الى قاع "جهران"، فضلا عن أن البلد بات على الأرجح خاليا من الغزلان تماما بقدر خلوه من معارضة وطنية حقيقية ومحترمة تصطف مع المقهورين في وجه القوة الغاشمة التي تحكم البلاد بقدمين في السلطة والمعارضة.
هل كان السؤال وإجابة قحطان عليه سقطتين أم أنهما كانا مدروسين وفي سياق برنامج حزبي تتم ترجمته على الأرض؟ وإذا كانت هناك رسالة وراء الإجابة، فما هي طبيعة هذه الرسالة؟ ولماذا يضطر قيادي بحجم ودهاء قحطان الى إطلاق تصريح إعلامي بهذا الحجم من الخطورة والاستفزاز للجنوبيين؟ لنحاول قراءة الأمر عبر هذه الخلفية.
عقب إعلان الرئيس صالح توصله الى اتفاق إنهاء النزاع المسلح مع الحوثيين في 17 يوليو الماضي، ثار شركاؤه في قرار إشعال صعده ضد قرار الإطفاء الذي وصفوه بـ"المنفرد" والمخالف للدستور وصولا الى اتهام صاحبه بـ"الخيانة الوطنية العظمى". ولم يتوقف الأمر عند رفض اتفاق إحلال السلام، بل تجاوز ذلك الى التلويح بورقة "الاحتجاجات الجنوبية" وأوراق أخرى، كان من بينها التلويح بـ"الثورة الجديدة"، وهو الوصف الذي أطلقه أحد تقارير صحيفة "الصحوة"، في 24 يوليو، على التقطعات القبلية التي أقامها احتجاجا على اتفاق السلام خارج صنعاء بعض قبائل حاشد المشاركين في القتال كجيش غير نظامي ضد الحوثي وفي صفه بعض مناطق بكيل الموالية أو المتعاطفة معه.
وقد سار هذا بالتزامن مع تحريض إعلامي، إضافة الى إشاعة مبثوثة شفهيا، لأهالي القتلى والجرحى والعائدين دون إصابات من هذه القبائل. التحريض تركز حول أن السلطة دفعت تعويضات كبيرة للمتضررين من جهة الحوثي، فيما لم تدفع لحلفائها القبليين بالمساواة. كانت هذه واحدة من أبشع أدوات التحريض التي استخدمت من أجل استئناف القتل والتشريد ضد من يفترض بالحزب الاسلامي الكبير التعامل معهم باعتبارهم مواطنين يمنيين. وقد استخدم الإصلاح كل أوراقه التي لوح بها ردا على قرار إيقاف "حرب صعده"، وأولها: الاحتجاجات الجنوبية التي كانت قد رَبَخَتْ أرضا بعد ضربة أبريل التي كان له دور في توقيعها على الأرض. وقد جاء تأكيد قحطان على دور "المشتركـ" الحاسم في "إلجام الحراك الجنوبي"، على الأرجح، في سياق تبادل الرسائل واستخدام الأوراق بين الطرفين المعنيين والمباشرين بمشاريع النزاع المسلح في الشمال. جاء هذا التأكيد موازيا لخروج الإصلاح و"المشتركـ" الى شوارع عدن والمحافظات الجنوبية الأخرى بـ"الصحون" و"المطايبـ" و"الدسود"، محتجين على انقطاع الكهرباء والماء عن الأهالي. وعلى أهمية هذه القضايا الماسة والنبيلة، إلا أن استخدامها السياسي لم يكن نبيلاً، إذ حمل في أحد وجهيه استخداما لها ضد "القضية الجنوبية" عبر مصادرة خصوصيتها. وهو الهدف الذي بدأت به اعتصامات المشترك في تعز كمنطقة وسطى معكوسة بعد تحول تاريخي في التوجهات الشمالية والجنوبية. ولابد أنكم تتذكرون تلك الاعتصامات التي كانت تنتهي بتبادل القبل والصور التذكارية مع قيادات محافظات تعز وأمنها، فيما كان القبضة الأمنية "تكَارِد" المحتجين في ساحات وشوارع عدن بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع. ومعلومة المعركة الإعلامية التي كانت تثيرها اعتصامات المشترك بين قيادته المركزية وصقور الاحتجاجات. كما معلومة الأزمة التي شهدها المشترك بين الإصلاح والاشتراكي حول قضية المعتقلين وأمور أخرى.
 
سياق جنوبي مستقل وانجرار اشتراكي الى ضرورة "الإصلاح":
لم تقتصر الحركة الاحتجاجية على إنتاج أطرها النضالية المستقلة، بل أنتجت سياقاً جنوبياً منفصلاً عن السياق السياسي والرمزي لليمن الموحد باعتبار هذا الأخير سياقا شمالياً وفقا لآثار 94. وهذا السياق الجنوبي المنفصل، الذي أخذ في النشوء والتعبير عن نفسه على عدة مستوى منذ بداية الاحتجاجات، فرضته خصوصية "القضية الجنوبية". ومثلما أنتجت الاحتجاجات أطرها النضالية، أنتجت شعراءها الشعبيين وفنانيها وأبطالها و"شهداءها" أيضا. وعبرت عن رفضها لصيغة "الدولة" الحالية، بوصفها صيغة "الدولة" الشمالية (ج.ع.ي)، بالعودة الى السياق الرمزي ل(ج.ي.د.ش) عبر عقد الاعتصامات في الأعياد والساحات الجنوبية التي كانت قد شهدت توارياً من الذاكرة، بخلاف المناسبات الشمالية التي عادت بعد 94 الى جدول الاحتفالات السنوية الرسمية: ذكرى تنصيب الرئيس صالح في 17 يوليو 1978، مثلاً. ورافق إحياء مناسبات وساحات (ج.ي.د.ش) رفع صور رموزها، رؤسائها وبعض قياداتها، وأبرزهم الرئيس الأسبق علي ناصر محمد (كان لافتاً في أحد الاعتصامات الكبيرة، الذي رفعت فيه صور جميع رؤساء الجمهورية الجنوبية منذ الاستقلال، إسقاط صورة الرئيس الجنوبي الراحل ذي الأصول الشمالية عبدالفتاح اسماعيل).
  وعبرت عملية إحياء (ج.ي.د.ش) عن نفسها، بشكلٍ أوضح، بعودة العلم الجنوبي الى سماء الاحتجاجات ومختلف الحيزات المتوفرة، بعد تقلص القطعة الجنوبية من سماء علم اليمن الموحد. أول حالة يقدم فيها المحتجون الجنوبيون على إحراق علم الوحدة في ساحتهم حدثت في أحد اعتصامات "المشتركـ" أواخر العام الماضي، وكانت أول حالة صدام على الأرض بين "المشتركـ" والحركة الاحتجاجية. وقد شهدتها ساحة "الضالع"، حيث تتركز "الطغمة" وفقا للحسبة التاريخية والقبلية والتمييزية المستخدمة ضد الجنوب منذ مرحلة التحضيرات المتسرعة لإعلان وحدة 90. كانت الحركة الاحتجاجية قد بدأت تشهد حالة انشقاق بين تيارين بشأن الموقف من الوحدة مع الشمال، أحدهما يطالب بمعالجة آثار 94 بالعودة الى اتفاقيات وحدة 90، فيما ذهب الآخر أبعد من ذلك مطالباً بـ"حق تقرير المصير" في رفض للوحدة مع الشمال من حيث المبدأ.
أتت الاحتجاجات بعد سنوات من الفرز الذي شهده الحزب الاشتراكي عام 1997 الى تيارين: جنوبي تمثل في "إصلاح مسار الوحدة" بقيادة محمد حيدرة مسدوس مع حسن باعوم، وقيادة اشتراكية متهمة بـ"الشمالية" من قبل صقور الحركة الاحتجاجية. ولما كانت الحركة الاحتجاجية قد تبنت خطاب تيار "إصلاح مسار الوحدة" المطالب بمعالجة آثار حرب 94، فقد وجد الاشتراكي نفسه، أول الأمر، في مواجهتها عبر استسلام دماغه لكونه يقف في وجه شقه الحزبي "الشيطاني" المتمثل في تياره الجنوبي. كانت مواجهة الحركة الاحتجاجية الجنوبية ضرورة ملزمة للإصلاح، ولم تكن كذلك بالنسبة للاشتراكي. وكان الأخير، بانجراره الى السير في ضرورة الشريك الإصلاحي في المعارضة، يصطف في جبهة آثار حرب 94 ويفوت على نفسه فرصة تاريخية لترجمة خطابه المعارض ورؤاه التقدمية على الأرض. وربما كان ينقص الحزب الاشتراكي التعامل مع "القضية الجنوبية" بروح الحزب المنتمي الى قواعده في الجنوب لا بروح الحزب الشخصي المنتمي الى الإصلاح.
 
الصدام بين الاحتجاجات والشمال الرسمي بسلطته ومعارضته معا:
كان من شأن خصوصية "القضية الجنوبية" ورفضها واقع ما بعد 94 أن تفرض على الاحتجاجات، منذ بداية حركة التصالح والتسامح، مواجهة شاملة مع الشمال الرسمي بسلطته ومعارضته على السواء. وقد ترجم هذا نفسه لاحقا على الأرض. لم يكن بوسع الحركة الاحتجاجية الشعبية الوليدة تفادي الاصطدام بمكونات واقع ما بعد 94 التي رفعت رفضها له شعارا وفي مقدمتها "اللقاء المشتركـ". وقد هددت الاحتجاجات مصالح المعارضة في الجنوب، إذ أخذت حالة الانفصال تطاول فروع الأخيرة هناك، بعد ذوبان قواعدها في الساحة الاحتجاجية واندفاع قياداتها الى الصفوف الأولى للاعتصامات. وشهدت نهايات 2007 تصاعداً في تضارب المواقف بين قيادات المعارضة في المركز وقيادات فروعها الجنوبية: حالة قيادات حزب الإصلاح مثلا. بينما شهد الاشتراكي حالات استقالة لبعض قياداته الوسطية وانضمامها الى الحركة الاحتجاجية، وهي حالات لا يعتد بها، إذ غالبا ما أبقت قيادات الفروع على انتمائها الحزبي وانخرطت في الاحتجاجات مع قواعدها (من أبرز قادة الحركة ومعتقليها قيادات اشتراكية).
  وفوق هذا، فإن الإصلاح، وهو "الأخ الأكبر" في "المشتركـ" وصاحب اليد الطولى في تقرير أجندته، يعد شريكا رئيسيا في حرب 94 واقتسام غنائمها. وعدم اعترافه العملي بـ"القضية الجنوبية" حتى الآن مفهوم في هذا السياق، بل إن موقفه هذا عكس نفسه على موقف "المشتركـ" الذي تأخر في الاعتراف بقضية الاحتجاجات لأكثر من عام. وهذا الاعتراف، الذي اقتصر على بيان صدر في فبراير الماضي بعد أن اتخذ الاشتراكي موقفا منفردا واعترف بالقضية، لم يترك- في الواقع- أثراً على أجندة التكتل المعارض الذي ما تزال الحركة الاحتجاجية تطالبه بموقف جدي.
  لقد أطلق "المشتركـ" اعتصاماته بهدف مواجهة طابع الخصوصية الجنوبية التي اتخذتها الاحتجاجات. ومثلما اعتبر هذه الخصوصية انفصالية، رأت قيادات الاحتجاجات في هذا التفافاً على "القضية الجنوبية" وإسقاطا لها عبر تهميشها وإلحاقها بمشاكل إجرائية ومعيشية تحتاج الى إصلاحات إدارية في إطار صيغة "الدولة" القائمة، وليس الى قرار سياسي شامل يعالج قضية سياسية شاملة كـ"القضية الجنوبية".
وبدأت المواجهة بين الطرفين بعد اتجاه "المشتركـ" الى إقامة اعتصامات موازية في بعض المحافظات الشمالية ضد الفساد وارتفاع الأسعار باعتبار هذه مدخل الحل الشامل لمختلف مشاكل البلد ومنها "القضية الجنوبية". وستصل هذه المواجهة الى الصدام المباشر، في أحد اعتصامات "المشتركـ" نهاية 2007، بعد انتقاله الى أنشطة منفردة وباسمه في المحافظات الجنوبية والشرقية التي كانت قد أصبحت مسرحا محصورا على سيدين اثنين: القضية الجنوبية وقوات الأمن. ولعل نشاط المعارضة بهذا الخصوص ساهم في شق الساحة الاحتجاجية من داخلها وتمكين التيار "المعتدلـ" من السيطرة على قرار الحركة الجنوبية بعد ضرب التيار المطالب بالانفصال، عبر اعتقال بعض رموزه و"تحييد" البعض الآخر. وهكذا، فقد خاضت الاحتجاجات مواجهة مع المركز السياسي الشمالي، بسلطته ومعارضته على السواء. وقد جر هذا نفسه حتى على موقف المعارضة من الاعتقالات والضربات القمعية التي أنزلتها السلطات بتيار الصقور في الحركة الاحتجاجية: غالبا ما رافقت هذه الضربات عملية "دعممة" حزبية، ووجد كل حزب معني بتقديم موقف من الاعتقالات لنفسه معتقلين وقضايا يعتصم من أجلهم ويرفعهم في لافتة.
 
المعارضة المزورة ومستنقع الدم المفتوح:
لقد كشف العامان الأخيران أن اليمن بلد موجود كحسابات ومشاريع وصفقات شخصية ومناطقية وطائفية وليس موجودا أبدا كمجتمع ووطن وهوية. وقد شهد اليمن أحداثا مهولة كان من شأنها أن تنتج قوى سياسية بديلة وتسدل الستار، ليس على حقبة الرئيس صالح وسلطته فقط، وإنما قبل ذلك على تكتل "اللقاء المشتركـ" الذي يقود معارضة مزورة ضد حكومة مزورة بالمثل. فمثلما يطلق على "المؤتمر الشعبي" وصف "الحزب الحاكم" زورا، يقف "المشتركـ" على الطرف المقابل من المعادلة السياسية المزورة بالكامل: طرف المعارضة المزورة. وكما يلعب المؤتمر، مع الحكومة التي يستحوذ الرئيس صالح وعائلته على أغلب صلاحياتها وإرادتها (كي لا نقول كل صلاحياتها)، دور الورقة السياسية المزورة لصالح الأسرة الحاكمة، يلعب المشترك نفس الدور لصالح حزب الإصلاح وقيادات الظل الشمالية التي تمتطيه وتقوده مستخدمة طريقة "الجزرة" الشهيرة. وتمتد حالة التزوير هذه الى تحالف "المشتركـ" نفسه. فهذا التحالف أنبنى على دماء "مهندسه" الاشتراكي على ما يرغب الاشتراكيون "الشماليون" غالبا التأكيد عليه في وصف المغدور جار الله عمر. ومهما حاول الاشتراكيون "الدعممة" عن دماء ذلك الرجل، سيظل الالتقاء بينهم وبين قواعد الإصلاح مسافة لا يمكن تجاوزها بمجرد تفادي المرور جوار مستنقع الدماء المفتوح حتى الآن.
nabilsobeaMail