في معرضها الشخصي الأول بالبيت الألماني.. سلوى الإرياني.. واللعب بالألوان، والتقاليد

(1)
كأنها تلعب لا ترسم. تلعب بألوانها. اللعب بمعناه الإيجابي هنا. تلعب فقط. وهذا في ظاهر الأمر واللوحة. يليق بها اللعب وهي تفعل لوحاتها. بسنها الصغير (25عاماً)، نشاهد سلوى الأرياني (في معرضها التشكيلي الشخصي الأول في اليمن حمل عنوان "للوحات غير المنتهية" والذي أُقيم بقاعة البيت الألماني بصنعاء). نشاهد سلوى في أعمال مُنفذة بألوان صارخة وزاهية وبمزاج طفولي، ما يشبه لطخات غير محددة على اللوحة. لكن سرعان ما نكتشف، أن وراء تلك اللطخات اللونية، أفكار عميقة، خصوصاً مسألة الاشتغال على المسكوت عنه؛ عن الكبت والتناقضات التي تسيطر على هذه البيئة المحلية التي نسكنها وتتحكم في سلوكيات أصحابها. أفكار ضاربة في عمق التورية السائدة. الكذب المقيم في أن الملابس والأردية لا يمكن أن تعمل على تغطية الفكرة المتحررة في ذهن الأنثى المقموعة، المهمشة، والمصادر حقها في القول والظهور والاستعراض. المساكن بوصفها مانعاً وحاجزاً معيقاً لانطلاق الرغبات الطبيعية المشروعة.
(2)
وينطلق هذا وذاك، كما يبدو في لوحات سلوى، من وعي وثقافة تسير بشكل جيد نحو البحث عن اكتمالها. وعيٌ يُعين ويدعم الفرشاة واللون على قول الكثير، ولو كان هذا مواربة بغير وضوح تام. وفي هذا احتراز وتقية من مغبة التصادم مع مجتمع ما يزال محكوماً بتقاليده وعاداته المحددة التي لا يمكنه القفز عليها أو تجاوزها في غمضة عين.
وربما نمسك، هنا، بنقطة على قدر كبير من الأهمية والتي تخص إدراك سلوى الإرياني بماهية هذا الواقع الاجتماعي المُحاصر والُمقيّد بإرثه العتيد والتليد. وعليه وجدت سلوى نفسها مجبورة على اختراع وسائل استنطاق ذاتية مغايرة لعناصر هذه البيئة المتحجرة والراقدة في قيلولتها الأبدية وفي تفاصيل الساعات السليمانية التي لا تنتهي أبداً.
(3)
في لوحة طفولية صارخة، مزجت سلوى بين اللونين الأصفر والبني، راسمة مباني، تبدو من والوهلة الأولى أنها تتداعى على فتاة صنعانية ترتدي الرداء التقليدي فقط، ولا شيء تحته، أو هكذا يبدو من اللوحة. مباني وكأنها تحاول منع الفتاة من الذهاب لموعدها الحميمي المُفترض. المباني هنا بوصفها رقيبا وعتيدا وملتقطا لأنفاس القلب الراغب في ذهابه إلى النار اللطيفة، المنتظرة بعد قليل.
لكأن مباني المدينة العريقة بعينين، وتبدو وقد تقمصت دور المُخبر المُكلّف
بكتابة تقرير يومي إلزامي بحالة المدينة وأحوال ناسها. تسجيل تفاصيل حركاتهم وتحركاتهم، همساتهم، هناتهم ولوغهم المشروع. فتياتها على وجه الخصوص.
وفي اللوحة ذاتها، نرى إلى المباني وقد تداعت على الفتاة. والتي بدورها لم تجد حلاً غير مد يديها على امتداد المباني. لكأنها تحاول صد الأذى المحتمل عليها. محاولة، ويكفي أنها محاولة.
(4)
في لوحة أخرى، نرى إلى المدينة التاريخية وقد صارت خلفية مموهة لها. لا تبدو صراحة أنها هي (حركة ذكاء أخرى تفعلها سلوى الإرياني).
لكن يبدو العري هنا واضحاً. لا شيء سوى الرداء التقليدي، وكأنه قد تحول إلى أداة تعريف بالحالة السائدة والتي يحاول كثيرون إنكار وجودها.
الفتاة لا ترتدي سواه. فيما الرجل لا يرتدي غير ما عليه. كأن لا شيء يمنع اللقاء والرعشة المرتقبة. رغم السدود والأعين المتلصصة. رغم العسس وزوار الليالي السوداء المعتمة. زوار الفضيلة المرتقبة والمصنوعة بقرار جاء ذات نزوة غير فاضلة بالمرّة.
(5)
وهناك لوحات أخرى طفولية وجادة في آن. مكتظة بألوانها الصارخة المختلطة بين الجواش والزيتي. ألوان كأنها متأكدة من صدقها العميق والتام.
فلوحة هنا، تقول، ولو بنكهة كاريكاتورية، كيف أن الرجل، وبعد صعود الساعة السليمانية قد صار جزءاً من المقيل. كأنه صار من أثاثه. كأنه أصبح من الجدار. ولا فرق هنا بعد صعود تلك الساعة إلى الدماغ، بينه وبين الجدار.
كما وهناك لوحات أخرى وبأعين متلصصة، دائماً. حيث قامت سلوى بتكثيف استخدامها لتلك الأعين وبشكل واضح. كأنها هي ذاتها، وبوعي باطني، تخشى تلك العيون، فراحت تظهر على لوحاتها. وبذلك تعمل محاولة لحماية حياتها الشخصية.
(6)
صراحة، وفي ختام كتابتي المُختصرة هنا عن هذا المعرض الذي طلّ علينا كومضة غير منتظرة، وددت لو قلت أكثر مما قلت، كتابة. وددت لو قلت ما يزيد عن مجرد القول والكتابة المُختصرة هذه. فمعرض سلوى كان كثيفاً وكثيراً بما يجعل المساحة هنا غير قادرة على لملمة كافة تفاصيله الدافئة والصارخة والجريئة. معرض كأنه بث في دواخلنا قطرة ضوء وأمل بخصوص هذا الجيل الشاب الذي يعمل جاهداً على نزع رداء التورية والمواربة عنّا. نحن الذين رقدنا ومن زمان في العفن والكبت.
هو جيل شاب ومُقتدر. تمثله سلوى هنا بفرشاتها الطفولية. جيل يستحق منا أكثر أن تحية، وأكثر من مجرد رفع قبعات. هم يفعلون هذا الرفع.
Hide Mail