وادي ميتم.. محطة لرحلة غير مشروعة

وادي ميتم.. محطة لرحلة غير مشروعة

 إب - ابراهيم البعداني
حظيت مدينة إب في بداية التسعينيات بشبكة صرف صحي كمكرمة من الحكومة بعد أن كانت المنازل شبحاً فوق البيارات التي كانت منتشرة خلف كل منزل.
لا يزال الأهالي في إب يتذكرون العمال الصينيين وهم يشقون الطرقات والوديان بمعاولهم وبآلات الحفر الخاصة لتنفيذ مخطط ربط الشبكة.
قبل ذلك واجهت الشركة المنفذة انذاك مشكلة المكان الذي سيصبح محطة معالجة لاستقبال مخلفات الصرف الصحي لمدينة إب.
الفكرة كانت إيجاد موقع يبعد عن المدينة سبعة كيلومترات على الأقل وأن تكون الأرض المختارة خالية من السكان وغير صالحة للزراعة وأن لا تحوي في باطنها أحواضاً مائية.

اتجهت الأنظار حينها صوب منطقة قاع الجامع (سبعة كيلو مترات شرق إب) كون تلك المنطقة واسعة وبعيدة عن السكان ولكونها كانت منطقة حدودية بين الشمال والجنوب، كما كانت موقعاً لمعسكر الحمزة الذي انتقل بعد الوحدة إلى الضالع وأصبح بعد ذلك عبارة عن مؤخرة صغيرة تابعة للواء 35 مشاة في الضالع الذي اندمج مع معسكر الحمزة، ولم يعد هناك داع لبقائها كون المنطقة لم تعد حدودية.
المقترح السابق لم يكتب له التنفيذ بسبب معارضة بعض المتنفذين في المحافظة خاصة العسكر وبعض المشايخ. بعدها وضعت مقترحات عدة، واختبرت مناطق كثيرة كانت تصلح لتكون موقعاً للمحطة، إلا أن كل تلك المقترحات لقيت رفضاً صريحاً من قبل المتنفذين تداركاً للموقف. وحتى لا يطير المشروع تقدم بعض المسؤولين في المحافظة بمقترح أن تكون منطقة الواسطة الواقعة في قلب وادي ميتم الذي كان غنياً بالمياه الجوفية و يبعد عن مدينة إب نحو كيلو مترين وأنه أصبح اليوم ضمن مدينة إب بسبب الزحف العمراني.
بداية الأمر اعترض عدد من المشائخ وأعيان ميتم ومديرية إب وبعض المسؤولين إلا أن المفاوضات التي تمت حينها بين مسؤولي الشركة المنفذة مع هؤلاء انتهت بتدفئة جيوب الأخرين لتسكت أفواههم وليدفعوا بقطعة أرض وسط وادي ميتم لتكون كبش الفداء لتبنى عليها المحطة.
بعد رحلة غير مشروعة
اليوم وبعد مرور أكثر من سبعة عشر عاماً على إنشاء تلك المحطة التي تمتد بشبكة المجاري من منازل المدينة مخترقة وادي ميتم الزراعي، تحولت غرف التفتيش التابعة للمحطة والمنتشرة في الوادي إلى ساقية ثابتة لري المحاصل الزراعية خاصة الخضروات بجميع أنواعها.
المزارعون هناك يشفطون المياه من داخل تلك الغرف بواسطة شافطات كهربائية لري محصولهم طوال العام خاصة الفصول التي لا تهطل فيها الأمطار.
كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من مؤسسة المياه والصرف الصحي ومكتب البيئة في المحافظة اللذين عجزا عن منع المزارعين من الري وخاصة المحاصيل التي تؤكل نيئة كون المحطة لا تعالج بيوض الديدان الموجودة في المياه والتي تعد سبباً رئيسياً للأمراض التي تصيب الإنسان والحيوان.
المزارعون يرجعون سبب تمسكهم بمياه المحطة إلى شحة المياه ولعدم توفر موارد مائية بديلة لري الأرض إضافة لكونهم يرغبون في زراعة الوادي طوال العام مستفيدين من غياب الرقابة ومن وجود مياه مجاري في الوادي.
جودة وسعر أقل
المتتبع للمنتوج الزراعي لتلك المحاصيل، خاصة الجزر، البطاط، الطماطم، البقدونس، الكوبش، التفاح وغيرها، يجدها تنمو بسرعة، ناهيكم عن زيادة الإخضرار فيها. غير أن مذاقها يختلف عن مذاق الأصناف نفسها التي تزرع في مناطق أخرى.
الأغرب من ذلك كله أن تلك الخضروات المزروعة في الوادي وتسقى بمياه المجاري تباع بأسعار أقل بكثير من نظيرتها المزروعة في مناطق أخرى، وذلك نظراً لكثرتها (زيادة العرض) وتراكمها في الأسواق والطرقات وإقبال الناس عليها كونها تباع بأسعار زهيدة دون أن يعرفوا مكان زراعتها بالضبط خاصة مع الأكاذيب التي يطلقها الباعة عن موطنها الأصل.
وادي الموت
أثبتت دراسة أعدتها الهيئة العامة للموارد المائية حول مصادر المياه واستخدامها في وادي ميتم، أن مياه الوادي تواجه مشكلة التلوث نتيجة الصرف الصحي حيث إن مياه غيل وادي ميتم الواقعة أسفل محطة المعالجة والممتدة عدة كيلو مترات تستخدم للأغراض الزراعية.
الدراسة أكدت أن نوعية المياه رديئة جداً وغير صالحة للزراعة كونها مختلطة بمياه السيول والمجاري الخارجة من المحطة إضافة إلى المياه غير المعالجة والمتجمعة في حوض إب المائي لاسيما المياه الواصلة من مديرية جبلة وما جاورها (تمر بامتداد وادي ميتم) وهذا بدوره يؤثر سلباً على نوعية المياه المتدفقة إلى وادي ميتم.
أشارت الدراسة إلى أنه بعد خروج المياه من محطة المعالجة باتجاه قاع مجرى وادي ميتم تتجمع في حفر لتشكل في النهاية مجموعة كبيرة من المستنقعات الملوثة تختلف في أحجامها من مكان إلى آخر حسب سعة الحفرة وهذه المياه المتدفقة من المحطة غير صالحة للزراعة أو سقي الأشجار والنباتات في قاع الوادي. وظهر ذلك واضحاً من خلال تأثر بعض الأشجار والنباتات في الوادي. التجارب التي أجريت على بعض المحاصيل الزراعية هناك بينت أنها تحتوي على نسبة عالية من المعادن الخطيرة التي تسبب أمراضاً مختلفة منها الشلل وضعف الذاكرة وفقر الدم الحاد والسرطان.
أستاذ الخضروات بكلية الزراعة بجامعة إب الدكتور عبدالله حمود الحاج، أوضح لـ«النداء» أن نتائج التحاليل التي أجريت في مركز الدراسات البيئية التابع لوزارة الإدارة المحلية والبيئية في دمشق على ثلاث عينات من المحاصيل الزراعية (البقدونس، والنعناع، الخس) تم أخذها من أرض تروى بمياه الصرف الصحي أنها تحتوي على معادن ثقيلة مركزة وخطرة تتمثل بمواد الكادميوم، الرصاص، والزئبق، فضلاً عن مادة النتريت وبنسبة عالية جداً، وأظهرت تلك التحاليل أن تركيز الرصاص في العينات الثلاث للخضار المروية بمياه الصرف الصحي وصل إلى 24 ضعفاً حيث تتراوح بين 14.2 ملغ/كغ في الخس والنعناع. علماً أن تراكيزاته الطبيعية في الخضار الورقية كالخس والبقدونس يجب أن تصل إلى 0.62 ملغ/كغ و0.2 ملغ/ كغ، في الخضار الجذرية كالبطاطا، و0.17 ملغ/كغ في الفواكه.
 وأضاف الحاج أن الرصاص يقلل من تروية النسيج بالأكسجين ويثبط الناقلية الكهربائية للأعصاب ويسبب الشلل وضعف الذاكرة، كما تتراكم شوارده في العظام والاسنان والشعر مسببة ما يعرف بمرض الرصاص وفقر الدم الحاد، كما أن الرصاص يضعف تطور الذكاء عند الأطفال.
ارتفاع نسبة الزئبق والكادميوم والنتريت ظهرت كذلك بشكل كبير في العينات المأخوذة وهو ما يسبب كمية هائلة من الأمراض المختلفة.
«طز» مادام المستهلك يمنياً
الملوثات الجرثومية تزول عند الطهي الجيد للخضار، لكن المعادن الثقيلة والموجودة في الخضروات التي تسقى بمياه الصرف الصحي لا تزول بالطهي ولا بأي طريقة أخرى وتفعل فعلها في جسم الانسان من خلال تراكمها في الجسم مع مرور الأيام.
ووفقاً لدراسات عديدة في الوطن العربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية، لا يجوز استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة، إلا في ري المزروعات التي لا تدخل في السلسلة الغذائية للإنسان مثل الأشجار التي تستخدم لإنتاج الأخشاب أو الأشجار التجارية كأشجار الزينة. لكن عندنا في اليمن كل شيء جائز، وكل شيء صالح، وكله «عادي» مادام المستهك يمنياً. ومن هذا المنطلق سيظل المزارعون يسقون مزروعاتهم من المجاري وسيظل اليمني يأكل بشراهة ما دامت رخيصة وما دامت أعين الرقابة مغلقة.