عن رفيق دربه عبدالباري طاهر ، بإعتباره صندوق الدنيا

<< عن رجلٍ كثيرٍ أكتبُ.. حين يكون الرجال قِلَّة..
عن زميلٍ كبيرٍ أكتبُ.. حين يغدو الزملاء بعض قملة..
أكتبُ عن قامة في زمن القُلامة.. أو عن إستثناء
في زمن القاعدة السائدة هذه الأثناء..
عن عبدالباري طاهر.. أكتب..
وقد احترت ماذا أكتب؟!... بل عن أي الوجوه في عبدالباري أكتب؟!
تُرى، أَأَكتبُ عن زميل المهنة.. أم رفيق المحنة؟!...
عن خليل الدرب.. أم نزيل القلب؟!... عن شريك الفكرة.. أم صديق الحسرة؟!
الكتابة عن «صندوق الدنيا».. فهو صندوق له ألف ألف مفتاح، برغم انه ليس عليه قفلٌ قَطْ!!
باختصار شديد، كما هي عادتي في الكتابة، أقول: إن عبدالباري محمد طاهر الأهدل.. موسوعة يمانية تمشي على قدمين لم تنتعلا يوماً حذاءً فاخر الطراز..
ينأى كاهلاه بمخزون نفيس من الثقافات المتعددة.. من دينية على جميع مذاهبها ومدارسها وفقهائها وعلمائها.. إلى ماركسية على عديد شواطئها وموانئها ومؤنها ومحنها.. إلى فلكية.. وأدبية.. وإعلامية.. وسياسية..
حتى إذا أردتَ أن تزور أفضل ورشة لصناعة وصيانة ورواية «النكتة» فعليك بزيارته..
و«أبو وضاح» أنموذج ساطع للقدرة المتميزة على خلق حالة من المثاقفة الحوارية.. وهي حالة معدومة -او تكاد- في هذا الزمكان.. وما كل تلك الجلبة - في الندوات والمؤتمرات والمحاضرات والمناظرات- سوى حالة غوغائية لا تختلف كثيراً عن غوغاء الميتادور في حلبة مقارعة الثيران في مدريد، او مصارعة الديوك في مانيللا، أو «مُفاخَطة» القطط في شارع هائل!!فما أحوجنا إلى حوار ثقافي رفيع في أدواته وقنواته، وقضيته ولغته، واخلاقياته وعلاقاته، واطرافه وأهدافه، بقدر حاجتنا إلى كثيرٍ كثير من عبدالباري طاهر.
فحين يرفع البعض عقيرته بالخوار.. تجد عبدالباري يفتح سريرته للحوار..
وهنا تعرف الفرق الشاسع والبون الواسع بين «أهدل» و... «أهبل»!!
وحين يتهافت البعض على مال او جاه أو سلطان.. ترى إبن الأهدل يتهاتف مع احلام الرفاق وآلام الاصدقاء وآمال الاخوان.
فإذا به أول ناقد لا تجد عنده النقود وأول متوقد لا يملك كوبون الوقود!!
وحين يغرز البعض اشواكاً سامة في خاصرة القيم والمثل النبيلة.. إذا بالرجل يغرس بذوراً مقدسة في تربة الاشياء الجميلة والأفياء الظليلة.
وإذا أضاف البعض مفردات ومعاني الخِسَّة والنجاسة والنخاسة إلى قاموس السياسة.. فإن «أبا وضاح» يضيف اليه مفردات ومعاني الحصافة والدماثة والكياسة..
أما إذا بحثت عن القشور والبثور والدمامل والمظاهر.. فأنت لن تلقى ثمَّة مكاناً لعبدالباري طاهر.
<< شاركتهُ العمل.. شاركته الطعام والشراب.. شاركته السفر.. شاركتهُ الشكوى والسلوى.. شاركتهُ الأسرار والأخبار.. شاركتهُ الضحكة والصرخة.. ومع هذا وتلك، شاركتهُ الخلاف والإختلاف في بعض الأحيان، بل في كثيرها.. >>
بَيْدَ أن الخلاف مع عبدالباري -والإختلاف معه- يظل بعيداً عن كل وسائل الدسيسة ووسائط الحقد والغدر والضغينة والبغضاء..
وماذا بعد...؟
ثمة الكثير الكثير ليقوله المرء أو يكتبه في عبدالباري وعنه.. ولو استرسل المرء القول، أو استسهل الكتابة -في هذا المضمار- لما كَفَتْهُ الليالي والأيام، ولا أَوْفَتْهُ الدفاتر والأقلام.. فالرجل بحر متلاطم المناقب، وبلاد مترامية المناكب.. لا تكاد تلمح أول الشعاع في نهاره، حتى تكتشف لرؤاك غيول صافية المسيل وخيول ناصعة الصهيل!
وأعرف أن القارئ الكريم -الذي لم يعرف عبدالباري طاهر عن كَثب وعُمق كافيين- لن يفقه ماوراء هذه السطور..
إنَّما وحدها تستطيع الكشف عن حقيقة هذا الرجل.. وحدها قادرة على إختزال كل تاريخه ورصيده وكيميائه وجغرافيته..
إنها... جنازته!
له العمر المديد بإذنه تعالى، آمين.
 
رئيس تحرير صحيفة «الوحدة»