عن فاسيلي ميتروخن والأسرار العلنية

أبوبكر السقاف يكتب عن فاسيلي ميتروخن والأسرار العلنية

منذ اليوم الأول في عمر الوحدة الفورية الاندماجية بدأ الشريك الشمالي في استثمار فكرة مفادها أن سيئات الحزب الاشتراكي في فترة حكمه الجنوب يمكن أن تكون من حسنات النظام في الشمال، وقد شارك في حفر هذا المنجم الثمين رئيس الجمهورية والإعلام الرسمي بمناسبة وبدون مناسبة، وكان ذلك غطاءً وقصفاً إعلامياً موجهاً في المقام الأول نحو الجنوبيين، وتحت هذا الغطاء الثخين والكلبي جرت اغتيالات الملاكات الحزبية الاشتراكية، مدنية وعسكرية، بل إن الحرب العدوانية التي أصابت الوحدة السلمية في مقتل شنت باسم إنقاذ الجنوب والجنوبيين من الاشتراكي الذي لا شك في أنه سيكرر تاريخه لو استقل الجنوب. وكان هذا سقوطاً في استهواء ذاتي، لأن شهودا ًمحايدين من العرب والأجانب قالوا في شهادة موثقة في ندوة لندن (تشرين الأول 1995) إن الشعب في عدن استقبل إعلان دولة الجنوب بفرح غامر.
استقبل بعض المتمسكين بتلك الفكرة أسرار ميتروخن (الأيام. 26، 27/7/2007) بفرح شديد، فهو عندهم استمرار للحملة التي بدأت في بداية مهرجانات الانتخابات الرئاسية في العالم الماضي. عندما كشفت «أسرار مقابر الصولبان، ثم نبشت مقابر ضحايا حرب 1986، حتى تبقى صورة الحكم المخيفة ماثلة في الأذهان، وفي محطات الحملات كلها تنطوي الفكرة على صورة خبيثة للجنوبي، فهو دموي وليس جديراً بحكم نفسه، وأهل الجنوب دائماً عصبيات متفرقة لا تجتمع في عصبية جامعة بالمعنى الخلدوني للكلمة، وينسى أصحاب هذا التصور أن كل ما جاء في أسرار ميتروخن معروف منذ سنوات، ربما باستثناء الفضائح الجنسية التي نسبت إلى أحد موظفي الجهاز الامني. وليس سراً أن جهاز الأمن الشمالي لديه مكتبة صور وفيديو يبتز بها الساسة والوزراء. كما أن الصورة التي استقر عليها الجنوب قبيل الوحدة كانت بعيدة عن مدارات الصراع الدامية، وإن كانت تحتفظ بشيء من التوتر ظن بعض الساسة ان الوحدة ستخلصه منه، فجاءت قفزة في المجهول وجرت وراءها ويلات وكوارث. «تسد مسارب ليل» الجنوب.
لن يكون مبالغة في القول إن إلحاح الشمال على الوحدة كان من أسبابه إلى جانب الثروة النفطية، خشية معلنة من تطور النظام السياسي في الجنوب، فالتعددية السياسية كانت قائمة، وإن لم تعلن بوساطة قانون، كما أن قانوناً للصحافة كان قيد الاعداد، وأقر مشروع اصلاح اقتصادي اجتماعي قدمه الزميل يس سعيد نعمان في شروط وظروف جديدة، وكان المستعجلون للوحدة الفورية الاندماجية وحدهم الذين طالبوا بتأجيل كل شيء إلى يوم الوحدة المنشودة، وستنهمر الحلول السحرية لكل المشاكل مع إطلال فجرها السعيد. كانت الموافقة على الدستور مقترنة بإضمار الالتفاف عليه وجعل الفترة الانتقالية، انتقامية بامتياز. وبعد الحرب كان الانقلاب غير الدستوري على الدستور.
كان الجنوب بهذه القسمات الجديدة وبعد إعلان الساسة أنهم استفادوا من تاريخ الدورات الدموية مؤهلاً لأن يكون أنموذجاً، وهذا أفضل طريق إلى الوحدة، بعيداً عن فكرة الدولة القاعدة، والزعيم الملهم القائد، فكل هذه الألواح الشعارات تتستر على العجز الأساسي في الانظمة السياسية العربية: عدم قدرتها على تقديم انموذج، وهذا الملمح ا لمحوري لا يزال قائماً في دنيا العرب كافة. الأنموذج القادر على جذب الآخرين هو أكثر الطرق عصرية وعقلانية وإنسانية، لأن البديل غزو الكويت ووحدة حرب العام 1994، ودولتها القائمة يقارنها الجنوبيون بدولتهم التي كانت قائمة حتى 21/5/1990، وهي بجميع المعايير أفضل من دولة العسف الشامل والنهب اللامحدود وإهدار الكرامات، والإزدراء والاستعلاء. إن الناس لا يقارنون إلا داخل تاريخ واقعي، لا في إطار صور الماضي التي تجاوزها، دولة ومجتمعاً، ولو أن ميتروخن حدثنا عن «عناصر ك. ج. ب في جهاز مخابرات الجمهورية العربية اليمنية» التي أوصلت شريطاً مسجلاً إلى رئيسها لأماط اللثام عن كثير من الأسرار الدامية والدرامية، وقد أشارت إلى بعضها صحيفة «الشارع» في أحد أعداد الشهر الماضي، عندما نشرت ملف اغتيال الشهيد الحمدي، وفظائع الجيش والأمن في المنطقة الوسطى تحتاج إلى سفر خاص يرويها.
يتوق الناس في دولة الوحدة إلى الأمن والأمان، وإلى الحد الأدنى من مستوى معيشة يليق بالبشر، وإلى كرامة تجعلهم يشعرون أن كرامتهم أساس كل وطن ووطنية، كما أنهم يتذكرون اليوم أن الحكم السابق في الجنوب حتى عندما كان يقترف أخطاءه أو جرائمه كان على صلة بهم، يعرفونه وبينه وبينهم صراع ومودة، أخذ وعطاء، إنكار واعتراف. إنه ليس غريباً عنهم، أما اليوم فالحكم أفراداً وأسلوباً ونظاماً غريب عنهم، إنه من كوكب آخر. غربة مضاعفة، ومحنة مضاعفة يصرون على رفضها ودفعها، والطوفان الذي يصدع بالحق من حضرموت حتى الضالع برهان لا يرد علىالناس في الجنوب يتحسرون على النباش الأول. لن يحسن لا متروخن ولا أسرار جواسيس الشرق والغرب صورة نظام السلطان، السلطنة القائم في الجنوب.
27/7/2007