عن العدالة المغضوب عليها في 17 يوليو

سامي غالب يكتب عن العدالة المغضوب عليها في 17 يوليو

احتفل العالم أمس بيوم العدالة العالمي، ومن سوء طالع العدالة في اليمن ألاَّ مكان لها في يومها الغارق حتى أذنيه في شؤون أخرى لا تمت بقرابة إلى الجيل الحالي من الحقوق والحريات.
باستثناء فعالية يتيمة في العاصمة ذكَّرت بالعدالة المأسوف عليها، فقد عُبئت الساحات العامة في المدن اليمنية، ومساحات البث الإذاعي والتلفزيوني، باحتفالات ومهرجانات متصلة بالذكرى ال29 لوصول الرئيس علي عبدالله صالح إلى الحكم في شمال اليمن.
في أسوأ الديكتاتوريات يتحول يوم استواء الحاكم على سدة العرش إلى لحظة الميلاد لكل شيء... لحظة الانفجار الكوني في نظريات الخلْق.
يتبارى الكتاب الصغار في دبج المدائح للزعيم، وحشد الحجج الجوفاء المبرهنة على وجاهة الزعم بأن 17 يوليو هو يوم الإسناد الزمني الذي يبدأ عنده تاريخ اليمنيين، في الشمال كما في الجنوب. وفي حمأة الحماسيات الوطنية الزائفة، قد يشطح البعض فيعيد تركيب الوقائع اليمنية والعربية بإسنادها إلى ذلك اليوم الأغر، ولا حرج إنْ تَطَلَب الأمر إحياء من في القبور لتقديم رواياتهم عن سماحة الرئيس وانفتاحه وهرولته لنجدة المحتاجين.
في 17 يوليو من كل عام يكون من الجائز «للموتى أن يروون القصص»، كما حدث قبل سنوات، عندما قرَّرت صحيفة حكومية استدعاء بدر شاكر السياب (المتوفي في الكويت عام 1964) من قبره في البصرة لتقديم إفادة عن كرم الرئيس وشغفه بالمبدعين. وقد نبش مؤرخو السلطة قبر السيَّاب، ونقلوا جثمانه إلى أحد مستشفيات العاصمة الأردنية (لكأنه أحد رعايا هذا الزمان المبليين بالسفر إلى عمَّان لغرض العلاج بمنحة رئاسية). وفي المستشفى الأردني طرق مبعوثو العناية الرئاسية غرفة السيَّاب، حاملين تحيات الرئيس، ووعداً بتغطية نفقات علاجه. لكن من أسف فإن التدخل الرئاسي الإنساني حيال «غريب على الخليج» لم تسعفه.
كذلك توفي السياب عام 1982 في عمَّان طبق الرواية المهرجانية للإعلام الرسمي في المناسبة السعيدة.
إن كان نابشو القبور هؤلاء على ثقة بأن الرئيس شديد الحساسية حيال المبدعين، فلماذا طمسوا، باسم الرئيس واليوم الأغر، تاريخ وإسهام فنان عظيم كمحمد حمود الحارثي، الذي شيعته برقيات عزاء صقيعية من كبار المسؤولين، ثم طوت صفحته برقيات التهاني ومدائح الشعراء السفليين البلاطيين، المتكاثرة في هذه الأيام الضاجة بآعراس الغبار،. كذلك غاب صاحب الصوت الفخيم و«صانع العجب»، من برامج التلفزيون والإذاعة المنذرة لراعي المبدعين وكافلهم.
يعبث الجوف الصغار بالتاريخ، كما بشخص الرئيس ذاته.
في قلب المشهد العبثي لا تُذكر وقائع مشهودة للرجل الذي يتملقون، ومنها تدخله لتوفير نفقات علاج شخصيات يمنية، بعضها من أبرز ناقديه.
في يوم الإسناد الزمني لا يعود ظلٌ للتاريخ على الجغرافيا المفكَّكة. وفيه يُغاث «زواحف الكتاب والسياسيين» بالخيرات والعطايا، ما يلزم الجهر بأن بقاء «رجل المهمات الصعبة» مدة 29 سنة في سدة حكم نظام جمهوري، إنجاز خارق ومفخرة وطنية.
في يوم الإسناد الزمني يتم تعطيل سنن الكون ومجرى التاريخ وحركة البشر. وفيه أُغلقت أبواب الصراعات السياسية، على حد التصريح المنسوب لنائب الرئيس في يومية «الثورة» أمس.
في 17 يوليو لا تعود اليمن «ديمقراطية ناشئة» يعلكها مدنيو الحكم ومنظروه البائسون، بل ديكتاتورية عسكرية تحيل على ما خلَّفه القرن الماضي من ديكتاتوريات بغيضة، حيث «العدالة» مفردة مقيتة، محجور عليها في مداخل البلاد، وإنْ تسللت إلى مضارب «وطن الحاكم»، فمحكوم عليها بالإقامة وراء القضبان.