محطة بني الحارث.. قرار في ساعة «سليمانية»!

محطة بني الحارث.. قرار في ساعة «سليمانية»! - بشرى العنسي

قبيل أن نصل إلى مبتغانا وأثناء سؤالنا للسائق عما إذا كان يعرف المكان الذي نبحث عنه، وضع زميلي في الرحلة يده على أنفه ونظر إليَّ فرحاً وقال: «أكيد وصلنا».
ما وصل إلى الزميل «شوقي» حينها وجعله يستنتج أننا اقتربنا من هدفنا لم يكن قد وصلني بعد، وربما كان اللثام الذي أرتديه سبباً في تأخر دلوف الرائحة إلى أنفي والتي ما لبثت أن تغلغلت إلى كل جزء فيَّ.
كان ذلك قبل مطار صنعاء الدولي بقليل والذي لا يبعد كثيراً عن محطة بني الحارث لمعالجة مياه المجاري والصرف الصحي.

ذاع صيت تلك المحطة التي أنشئت لأغراض سلمية ولدرء مشاكل عديدة فأصبحت مشكلة بحد ذاتها وحكاية تحكى في كل ورشة أو مؤتمر واجتماع متعلق بالبيئة، إضافة إلى جلسات البرلمان التي لا تخلو من أسئلة النواب حولها وحول الشكاوى التي تردهم.
أنشئت المحطة في 2001 لمعالجة مياه المجاري والاستفادة منها في أغراض أخرى ولتخفيف الضغط على المياه الجوفية وحوض صنعاء، وصممت حينها لاستيعاب 22 ألف لتر، في حين تصل المياه الواصلة إلى المحطة حالياً إلى 52 ألف لتر يومياً، أي تفوق قدرة المحطة بكثير، وهو الأمر الذي يضطر المحطة إلى إخراج المياه دون معالجة خاصة مع التزايد العمراني واتساع شبكة الصرف الصحي. وحسب ما علمت «النداء» فإن الدول والمنظمات المانحة تعتزم إيقاف دعمها لمشاريع شبكات الصرف الصحي حتى يتم معالجة مشكلة المحطة أو إنشاء محطة جديدة.
الجدير بالذكر أنه ومنذ سنة تقريباً تنفذ مؤسسة المياه والصرف الصحي شبكة جديدة للصرف في صنعاء وتذهب مخرجات تلك الشبكات جميعها إلى المحطة التي لا تستطيع استيعابها وهذه إحدى المشكلات التي تواجهها.
موسم الامطار كذلك يمثل كارثة للمحطة وللمناطق المحيطة بها، حيث تزداد نسبة المياه المتدفقة إلى المحطة كون معظم مياه الأمطار يصب في شبكة الصرف الصحي وهو ما يشكل عبئاً كبيراً على المحطة فلا تقدر على معالجة الكمية الهائلة من المياه الواصلة فتخرجها بدون معالجة، وهنا تتشابك المسؤوليات وتتوزع على جهات كثيرة، فبسبب عدم اكتمال شبكة مجاري السيول في مناطق كثيرة فإن المياه تذهب إلى شبكة الصرف الصحي دون استفادة منها وبالتالي تسبب ضغطاً من خلال كمية المياه وما تحمله معها من مواد عالقة تؤدي إلى تعطل المحطة. وبحسب تقرير أعدته إدارة المحطة فإن نسبة المياه التي خرجت بدون معالجة بسبب السيول والأمطار خلال شهر مايو فقط وصلت إلى 12000.000 متر مكعب، وتأتي كذلك مشكلة المخلفات التي تصل إلى المحطة مع مياه المجاري فتسبب أعطالاً في مدخلها، حيث اعتبر المهندس فاروق القدسي قضية المخلفات من اكبر المشاكل التي تواجه المحطة. مضيفاً أنهم يجدون أشياء لا يصدق أنها وصلت عبر المجاري ويرجع القدسي السبب في ذلك إلى عدم وجود وعي بيئي لدى العامة، حيث يتم إلقاء المخالفات التي تعوق عملية المعالجة وتقلل من كفاءتها وتعمل كذلك على زيادة استهلاك الطاقة وإهلاك الآلات حيث يصعب فصلها وإزالتها بالشباك الأتوماتيكي، فيضطرون إلى إزالتها يدوياً مما يعرض العاملين لمخاطر بيئية تنعكس سلباً على صحتهم علاوة على المخاطر الأخرى التي يتعرضون لها.
إبراهيم سالم الجرادي أحد فنيي التشغيل كان يعمل في موقعه بكل هدوء في إزالة المخلفات العالقة، كان يرتدي قفازين يخلعهما بين الحين والآخر. وتلك الكمامات التي قيل إنه يتم توزيعها على العمال لم تكن معه نهائياً رغم المخاطر التي قد يتعرض لها من جراء استنشاق الغازات والمواد الكيماوية المصاحبة لمياه المجاري.
المختصيون قالوا حينها إن هذا إهمال من العمال أنفسهم لصحتهم حيث يتم توزيع قفازات وأحذية طويلة وكذلك كمامات إلا أنهم لا يرتدونها أثناء العمل. وأضافوا أنه يتم توزيع حليب للعمال يومياً كما يتم عمل فحوصات دورية لهم كل ثلاثة أشهر إضافة إلى وجود وحدة صحية للاسعافات الأولية. إلا أن التقرير الذي أعدته المحطة خلال الأشهر الخمسة الماضية أشار إلى عدم وجود وحدة صحية في المحطة.

72.. الحرية للذباب
القضية الأخرى التي تقف عائقاً أمام المحطة إلى جانب المشاكل السابقة هي مسألة الزيوت الواصلة إليها من المصانع والمسالخ. وتعمل تلك الزيوت على إيقاف عمل البكتيريا الهوائية وبالتالي يتعطل عمل المحطة نهائياً وتخرج المياه دون معالجة، إضافة إلى عدم وجود مصدر بديل للطاقة الكهربائية مما يؤدي لتوقف تشغيل المحطة في حالة انطفاء الكهرباء.
كل تلك المشاكل السابقة تبطل عمل المحطة وتخرج المياه منها كما وصلت بدون أي معالجة تذكر، أي أن دور المحطة انتهى تماماً وأصبح وجودها كعدمها بل يصبح وجودها أضر، حيث تكون مخرجات المحطة كارثة على المناطق المجاورة والمزروعات، مسببة تلوثاً بيئياً يزداد بمواسم الأمطار مما يزيد الطين بلة.
علي العنسي عضو لجنة المياه والبيئة بمجلس النواب قال لـ«النداء» إن مشكلة بني الحارث وأرحب تتفاقم بسبب التلوث البيئي، وأعاد ذلك إلى سوء التخطيط لها منذ البداية. وأضاف أن على كافة مؤسسات الدولة الإلتفات إلى هذه المشكلة الهامة وضرورة حلها وإنشاء محطة جديدة، الأمر الذي يعوقه حالياً مسألة حيازة الأرض. وبحسب مصادر فإن حيازة الأرض تتطلب 6 مليارات ريال، ولا تملك الدولة هذا المبلغ لحل الاشكال.
مشكلة محطة بني الحارث قد تكون متفاقمة في الخارج أكثر مما هو داخل المحطة فتلك المناطق المحيطة بها تعيش مأساة حقيقية مع تلك الروائح الكريهة وكذلك الذباب والبعوض المنتشر بشكل مخيف جداً، والمستنقعات الكثيرة التي تصل حسب المختصين إلى 72 مستنقعاً. ويعيد أحد المختصين الأسباب إلى الأهالي انفسهم فيقول إن الأهالي يقومون بحفر المستنقعات كي يحجزوا مياه المحطة للسقي في أي وقت وهو ما يشكل مجمعاً لتكاثر الذباب والبعوض وكذلك يسبب تعفناً للمياه المتراكمة.
كل ما يوجد في بني الحارث هو ذباب ومستنقعات ونتانة ومزروعات تشعرك بالغثيان كلما تذكرت أنك تأكل منها. الذباب كان يتطاير بكل حرية وبأسراب كبيرة وكأننا في مدينة الذباب.
أحد المواطنين خرج من منزله أثناء وقوفنا عند أحد المستنقعات مع المختصين وراح يشتكي: «الذباب والنامس ما خلونا نعيش ولا نرقد». وعندما أجابه المختصون حينها بأن هناك فرق رش لمكافحة الذباب، أكد أنه لم تأت أي فرقة إلى المكان ولم ير أحداً يرش نهائياً. المختصون أكدوا حينها وجود فرق للرش والمكافحة بناء على عقد مبرم بين المؤسسة المحلية ممثلة بالمحطة ومكتب الزراعة في بني الحارث.

محطة جديدة وكفى!
أرسل ابراهيم المهدي مدير مؤسسة المياه والصرف الصحي رسالة إلى مجلس النواب في إبريل يطلعه فيها على بعض الإجراءات التي أتخذت في المحطة للحد من الأضرار الناجمة عنها وكذلك لتلافي الملاحظات التي أوردتها لجنة المياه والبيئة في تقرير سابق. واشتملت الرسالة/ الرد على عدد من المشاريع التي نفذت في المحطة أغلبها تعثر تنفيذه لأسباب عدة أوردتها المؤسسة. الغريب أن تلك الاصلاحات التي نفذت والإصلاحات المستقبلية تكلف ملايين الدولارات، فلماذا يتم كل هذا الصرف والدفع لشيء لا فائدة من إصلاحه مع كل تلك المشاكل التي لا أظنهم يجدون لها حلاً جذرياً؟! فبدلاً من ذلك الإنفاق الهائل للمحطة الحالية لماذا لا يتم الإسراع في إنشاء محطة جديدة وكفى؟!
الشكاوى من المواطنين لا تتوقف وضرر المحطة أصبح اكثر من نفعها؛ كونها تتحمل فوق طاقتها، وكون موقعها غير مناسب، إضافة إلى الأضرار التي سببتها للمياه السطحية والسدود الموجودة في أرحب، وهو ما يستوجب تكاتف جهات مختلفة؛ كون المسؤولية تتوزع على عاتقهم والملامة تلقى عليهم بالمقام الأول كوزارة الزراعة ومؤسسة الصرف الصحي وأمانة العاصمة والمنشآت الصناعية ووحدة تنفيذ السائلة وغيرها من الجهات الأخرى التي يجب أن تبدي إهتماماً أكبر بالمشكلة.
يذكر أن كلاً من وزير المياه والبيئة، وأمين العاصمة، ومدير مؤسسة المياه، ومدير المحطة، مثلوا أمس الأول أمام لجنة المياه والبيئة في البرلمان، للمساءلة حول مشكلة المحطة وكيفية معالجتها.

أمراض محمولة على الهيلوكس!
عدد كبير من سيارات الهيلوكس محملة بأنواع مختلفة من الخضار والفواكه، تنطلق من مزارع بني الحارث وأرحب، متجهة إلى سوق «مذبح» المركزي ومنه إلى جميع أسواق العاصمة صنعاء لتصل إلى كل مطابخها.
أحد المزارعين الذين اقتربت منهم، وكان يجني محصول الخس، أنكر تماماً أن تكون المياه التي يسقي بها المزروعات من مياه محطة المعالجة، مصراً على أنه يسقي من «البمبة» (المضخة). المختصون في المحطة أكدوا أن جميع المزارعين في المنطقة ينكرون أنهم يسقون من المحطة، خوفاً على مزروعاتهم من الكساد، إضافة إلى أنهم لا يشتكون من المحطة إذا ما أخرجت مياهاً غير معالجة، لأنهم يستفيدون من ذلك كسماد للمحصول، وأنهم يشتكون فقط من الزيوت التي تصلهم مع المياه غير المعالجة، كونها تؤثر على المزروعات. وأكد المختصون أنهم عندما يضطرون إلى إخراج مياه المجاري بدون معالجة، لأي سبب، فإنهم يبلغون المزارعين بذلك مسبقاً ويطلبون منهم عدم سقي المحاصيل، لكن المزارعين لا يستمعون لهم.
محاصيل عدة تزرع في تلك المناطق بالاعتماد على مياه المحطة، والأسوأ في الأمر يكمن في المحاصيل والخضروات التي لا تحتاج إلى غلي، بل تؤكل طازجة، كالفجل والخس والطماطم والكراث وغيرها. وهذه الخضروات تمثل الضرر الأكبر على المستهلك، كونها لا تغلى، وكون محاصيل تلك المناطق تُسقى من مياه المحطة، التي غالباً ما تكون غير معالجة، وغالباً ما تحتوي على مواد كيميائية وملوثات أخرى خارجة من المصانع والمستشفيات والمسالخ وغيرها من المرافق الأخرى التي تنتج ملوثات مختلفة وخطيرة، والنتيجة: تشُّبع المزروعات بتلك الملوثات والمواد الضارة لتصل إلى معدة المستهلك. ولا ندري هنا أين دور وزارة الزراعة في هذا، ولماذا لا تراقب المزارعين ولا تمنعهم من زراعة بعض انواع الخضروات التي تتأثر سريعاً بنوعية المياه.

إسأل عن المحطة تعرف أين المطار!
أي عقل وأية عبقرية أوصلت المسؤولين عندنا لاختيار موقع المحطة الحالي؟! وفي أي ساعة «سليمانية» خططوا ووقعوا ونفذوا ذلك القرار الأرعن؟! ألم يجدوا طفلاً بجانبهم ليخبرهم أن محطة كتلك التي عزموا على إنشائها لا تصلح لأن تكون في ذلك المكان بالذات؟! ألم يسمعوا ضجيج الطائرات ليتنبهوا إلى أنهم بجانب مطار صنعاء الدولي الذي يعتبر وجه اليمن لكل زائر وكل وفد؟!
ألم يفكروا بأنهم ينشئون محطة لمياه المجاري، ما يعني روائح كريهة وذباباً، قد تصل إلى المطار وتمثل إزعاجاً للزوار، وسواد وجه لنا؟!!
يحق لكم أن تفخروا بالعقول المدبرة عندنا في اليمن وبالمسؤولين العباقرة. ويحق لكم أيضاً أن تضحكوا في الخفاء.
أحد المختصين في المحطة قال إنه إلى جانب المشكلة الأمنية التي يواجهونها في المحطة بسبب قربها من المطار، تأتي مشكلة الروائح والذباب. وأضاف أن موظفي المطار يتواصلون معهم للتخفيف من تلك المشكلة اثناء الزيارات الرسمية والوفود التي تصل.

boshrasalehaliMail