«النداء» تفتح ملف المختفون قسرياً (2)

«النداء» تفتح ملف المختفون قسرياً (2)

أحياء أم أموات
 
 
يوجد ارتباط قوي بين الوحدة اليمنية وملف المختفين قسرياً. ومن أسف تأخذ العلاقة الارتباطية بين المنجز التاريخي والملف الإنساني المترع بعذابات آلاف اليمنيين صيغة الارتباط العكسي! يحضر المنجز فيغيب الملف..يغيب الإنسان.
 
- سامي غالب
Hide Mail

في 22 مايو 1990 رفع قادة الجمهورية الجديدة شعار «الوحدة تجب ما قبلها»، وتبين، تالياً أن المغزى هو التفلت من أية مسؤوليات حيال ضحايا الصراعات والحروب الأهلية الداخلية في شطري اليمن.
لم تجب الوحدة ما قبلها، وكان محتماً أن تتحول إلى رافد كبير لصراعات وحروب داخلية جديدة.
قبل الوحدة سقط عشرات الآلاف من القتلى جراء الاقتتالات والانقلابات والحروب الداخلية في الشطرين، وبينهما. ودفع آلاف الضحايا من دمهم وأعمارهم ضريبة العنف المعمم، وأزهقت أرواح الأبرياء على مذبح ايديولوجيات عمياء تحتقر الحياة الفانية (!) بزعم فراديس موعُدة تبشر بها.
 تحت غطاء الايديولوجيات والقضايا الكبرى والثوابت الوطنية التي لا تتزحزح من مواقعها في الخطاب الاستبدادي، أوغلت الانظمة المتعاقبة في الشطرين في دماء اليمنيين. وكذلك كانت الوحدة اليمنية أداة القامع مثلما هي وعد المقموع. باسمها ومن أجلها سوِّغ التقتيل، كما التضحية. وداخل هذه الثنائية المرعبة حُشِّر مئات اليمنيين في منزلة بين المنزلتين: ليسوا أحياء، ليسوا موتى. هؤلاء هم ما اصطلح على تسميتهم بالمختفين قسرياً.
لم تجب الوحدة ما قبلها من استبداد وقمع وترويع واستعلاء على عذابات أسر المختفين قسرياً. لم يكشف «العهد الوحدوي» عن مصائر «المغيبين فيزيائياً» خلال العهود التشطيرية، لم يعتذر الجناة للضحايا.
تجاهل السادة الوحدويون ضحايا عهودهم التشطيرية. وقدَّروا وحدهم بأن الإنجاز التاريخي يتعالى على تواريخ المختفين وعذابات أقاربهم.
والحال أن «القضايا الكبرى» و«الثوابت الوطنية» احتفظت بقدرتها الأدائية في العهد الوحدوي. وكان أن اندلعت حرب 1994، وأنضم عشرات، وربما مئات، الضحايا، إلى قائمة المختفين قسرياً.
شرعت «النداء» في عددها الماضي بفتح ملف المختفين قسرياً بالتزامن مع الاحتفالات بالعيد الوطني، عيد الوحدة. وكان التقدير أنه من الواجب، مهنياً وأخلاقيا، تظهير الدلالات المتصادمة المتولدة عن الحدث التاريخي.
لدى أقارب المختفين قسرياً، كما يتضح في شهاداتهم التي أدلوا بها لـ«النداء»، ارتبطت الوحدة بالخلاص تارة، وبالحرب تارة أخرى. بداية أخذت صيغة الجمع (جمع الضحية بأسرتها) قبل أن يتضح انها صيغة طرح (طرح الوعود جانباً). وعدت بلقاء أحبة، وآلت إلى وحدة موحشة للضحية (الحي الميت!) ولأقاربه المتوحدين بزمن تغييب الضحية فيزيائياً.
على مدى السنوات الماضية، أخذ ملف المختفين قسرياً طابعاً تقنياً في تعاطي الحكومات اليمنية المتعاقبة مع المفوضية السامية لحقوق الانسان. انتهت معاناة الضحايا وأسرهم إلى محض وثائق ومذكرات متبادلة لتسوية شؤون صغيرة عالقة.
ومن زاوية أخرى، تعاملت المنظمات الحقوقية والمدنية ببرود مع هذا «الملف الحارق» الذي تنبعث منه روائح شواء أوصال الضحايا، لكأنها تستعفف الاقتراب منه.
ومن زاوية ثالثة، تم حشر قضايا المختفين قسرياً داخل خطاب سياسي معارض يتسم بالعمومية والارتجال. وأكثر من ذلك تم تبهيت هذه المأساة الكبرى عبر تجريدها المستمر، لكأنما هي واحدة من المطالب المزمنة للاصلاحيين في اليمن.
وعلى الجملة، فإن عذابات أقارب المختفين قسرياً تتغذى باستمرار من هشاشة الوعي الحقوقي والديمقراطي لدى المطالبين بالتغيير، وضعف الوازع لدى ناشطي حقوق الإنسان, الدعاة قبل الأدعياء، هؤلاء المتلفعين بالجليد، الذين يدبُّون في أقصى البقاع وأصقعها ليتفادوا الاقتراب من مناطق مسوَّرة بالنار، محصنة بالنسيان.
إلى هؤلاء وأولئك، وإلى الوحدة الوعد، وإلى الأسر المعذَّبة، وإلى الأحياء المغيبين فيزيائياً، تقدم «النداء» في هذا العدد شهادات جديدة، ووعداً بمواصلة النشر في الأعداد المقبلة.
 
 
 
 

***
 
 
 
أبي.. لا مزيد!
 

كنت، أنا أحمد صالح، في الخامسة والنصف من عمري عندما شاهدت والدي لآخر مرة مساء 24 يونيو 1994.
كنا قد انتقلنا إلى منزل جدتي (لأمي) الكائن في المعلا. وإلى ذلك المنزل كان والدي الرائد صالح مقبل صالح المقبلي، الضابط في معسكر الجلاء في البريقة (صلاح الدين) يتردد لزيارتنا كلما سنحت له الظروف خلال الحرب.
 
- أحمد صالح
 

مساء 24 يونيو جاء والدي للاطمئنان على أسرته الصغيرة: والدتي أمل أحمد عبدالله يعقوب خان، واختي نيفين التي تكبرني بعامين، وأخي علي المولود في 15 مايو 1992. ما زلت أذكر هيئته جيداً، وما تزال انفعالات اليوم الأخير منقوشة في ذاكرتي. أتذكر والدتي وهي ترجو منه البقاء معنا. قالت له: «إجلس معنا، أني خايفة عليك»، لكنه طمنها بأنه لن يتعرض لأذى، وأبلغها بأنه لا يستطيع أن يتخلى عن واجبه الوطني. تلطف معنا، ثم غادرنا، وكان الحس بالخطر الوشيك يتحكم بوالدتي.
ذهب ولم يعد. لم نره ثانية، لم نتلق أية أخبار عنه، لم توافنا جهة، بأية بيانات عن مصيره. لم تتفضل أية منظمة حقوقية بزيارتنا يوماً، ولم يبادر أحد ما إلى التخفيف عنا، كنّا وحيدين وما نزال كذلك.
وها إن اليأس يكاد يجهز على آخر بارقة أمل في قلوبنا بعد انقضاء 13 عاماً على غيابه.
انتزعت حرب 1994 أبي من بيننا، ومعه انتزعت السلام من أسرتنا الصغيرة.
أذكر والدي جيداً: دفئه الذي لم أذقه منذ اختفائه قسرياً، وصرامته التي كانت تظهر ساعة يشعر بالقلق علينا، كما في ظهيرة أحد أيام ما قبل كارثة الحرب. خارج منزلنا المتواضع في البريقة، كنت أقود دراجتي ذات الثلاث عجلات، فمرقت سيارة مسرعة كادت تدهسني، فهرع أبي إلى المكان لينهرني من معاودة اللعب بدراجتي في وسط الشارع.
 
حرمتني الحرب من صرامة الأب!
خلال إحدى زيارات والدي مطلع أيام الحرب، كان دوي يملأ المكان، مثيراً الذعر في نفوسنا، سألت أبي: أبا أيش دي القوارح؟، رد باسماً: لا تخفش هذي طماش! لم تكن طماش، فصباح اليوم الأول للحرب دوَّى انفجار جوار بيتنا في البريقة. لم أصمد أمام فضولي الجارف، أنا الأبن الذي يحمل سر أبيه وجيناته، أبي الضابط الشاب المتخصص في القيادة التكنيكية لفصيلة مدفعية. سارعت إلى الخروج من البيت وكنت أول من شاهد قذيفة صاروخية (غير محملة بمتفجرات) في الشارع. وقيل لي إن الصاروخ الذي لم يترتب عليه أية أضرار مادية أو بشرية، أطلق من معسكر الجلاء لأغراض تجريبية. لكنها الحرب تودي بحياة الأبرياء. فظهيرة اليوم نفسه قدمت جدتي إلى بيتنا لتأخذنا إلى بيتها الآمن في المعلا. وافقت والدتي، وغادرنا جميعاً رفقة الجدة الطيبة.
ولد أبي في قرية «زُبيد» بمحافظة الضالع عام 1963. بعد إنهائه المرحلة الثانوية، التحق بالكلية العسكرية عام 1982، وتخرج بعد عامين ضابطاً متخصصاً في القيادة التكنيكية لفصيلة مدفعية. وقتها كان الضابط الشاب قد تزوج قبل عام من أمل أحمد عبدالله يعقوب خان. وطبق العقد، فقد تم الزواج في 25 رمضان 1403 الموافق 6 يوليو 1983.
علمتني محنة أسرتي أن أحفظ التواريخ جيداً. سكن والداي منزلاً متواضعاً في البريقة -مديرية الشعب، عدن. اختار أبي أن يقيم قريباً من معسكر الجلاء حيث يعمل. في 19 يونيو 1986 انجبت أمي «نيفين»، شقيقتي التي أكملت الثانوية العامة لكنها اضطرت الآن إلى العمل لمساعدتنا.
كنت الثاني في الترتيب، فقد ولدت في 22 نوفمبر 1988. ثم انضم أخي علي إلى عالمنا في 15 مايو 1992. كان أسوأنا حظاً، لم ينعم قط بالكبر في كنف أب فبعد أقل من عامين اندلعت الحرب، غيبت أبي، ودفعت بنا إلى العراء.
انتهت الحرب، وبدأت رحلة البحث عن أبي. انتظرت أمي لأسابيع عودته، دون جدوى. كنا ما نزال نقيم في منزل جدتي. إذ أن البيت الذي كنا نسكنه في البريقة، لم يُعد لنا، بعد اختفاء أبي. وقد أبلغتني أمي بأن البيت تابع للجيش، ولم يعد من حقنا الإقامة فيه ما دام أبي لم يعد يشغل عمله في المعسكر!
في 16 نوفمبر 1994، أي بعد نحو 3 أشهر من انتهاء الحرب، غادرت أمي مدينتها عدن إلى صنعاء، لمتابعة صرف مصدر معيشتنا الوحيد: راتب الأب المختفي قسرياً. كانت وزارة الدفاع تقوم حينها بدمج القوات الجنوبية بالجيش، لكن اسم أبي لم يظهر في قائمة الضباط المدموجين في قوة اللواء 11 صواريخ -الحرس الجمهوري. وكان معنى هذا أن نفقد مصدر رزقنا الوحيد.
استغرقت أسرتي وقتاً لإدراج إسم والدي في قوائم المرتبات في الدائرة المالية بوزارة الدفاع. وقد توجب على أمي أن تنصاع للأنظمة الظالمة، وتستخرج شهادة وفاة، ليس باستلام راتب أبي في عدن.
الراتب الذي نتحصل عليه يبلغ 18 الف ريال، يذهب 15 الف ريال منه لسداد إيجار سكننا المتواضع في شعب العيدروس بعدن!
أدرس في ثانوية لطفي جعفر أمان، وأستعد الآن لامتحانات الثانوية. ويدرس علي الصف التاسع في مدرسة شمسان. ولم تتمكن نيفين من مواصلة دراستها الجامعية، وهي تعمل لمساعدة أمي على تغطية ما أمكن من احتياجاتنا الضرورية. ونحن جميعاً نعرف معنى الحرب التي أودت بالأبرياء، وشردت أسرهم، وضيعت ممتلكاتهم. ومع الوقت كبرت معاناتنا، وفقدنا سنة بعد سنة كل سند. أذكر جدي لأمي أحمد عبدالله خان، الذي كرَّس وقته وجهده للبحث عن صهره الرائد صالح مقبل صالح المقبلي. بعد عامين من الاختفاء القسري لأبي، تنقل جدي بين المحافظات بحثاً عنه. ثم غادر إلى الخليج لاحقاً. أملاً في الحصول على أية بيانات من زملاء والدي المنفيين هناك وفي نهاية 2000، وكنت حينها أدرس الصف السادس، سافرنا جميعاً، أمي وشقيقاي وأنا، رفقة جدي إلى أبو ظبي، بحثاً عن خيط يوصلنا إلى مصير أبي. والآن فإننا وحيدون نكدح لنحيا، بعدما توفي جدي، رحمه الله، قبل عام ونصف. وكانت جدتي قد سبقته إلى الدار الآخرة قبل عامين.
لم أعرف جداي لأبي قط. مات جدي عندما كان والدي في ال12 من العمر، أما جدتي فقد ماتت بعيد ميلاد نيفين. لا أعرف بدقة تواريخ وفاة أجدادي، ولكنني تخصصت، كما والدتي ونيفين وعلي، في التنقيب وراء سيرة أبي الرائد صالح المقبلي الذي حُررت بإسمه شهادة وفاة صادرة من الأحوال المدنية بمديرية صيرة -عدن في 9 يونيو 1997 تفيد بأنه توفى 24 يونيو 1994 في مدينة صلاح الدين بمديرية الشعب -محافظة عدن.
في الوثائق الرسمية تحول تاريخ مغادرة والدي لمنزل جدتي في المعلا إلى تاريخ وفاة، لكننا، أمي ونيفين وعلي وأنا، ما زلنا بعد مضي 13 عاماً على الحرب، نتطلع لمعرفة ماذا حصل بالضبط بعد مساء 24 يونيو 1994، ذلك اليوم الذي صار تاريخ وفاته في وثائق وزارة الدفاع ومصلحة الأحوال المدنية.
وإذا كان حقاً مات فإن على الجهات المختصة في الدولة أن تتكرم علينا بالكشف عن قبره ليتسنى لنا زيارته وقراءة الفاتحة على روحه.
 
 

***
 
 
زوجته تطالب بلجنة تحقيق تكشف عن مصيره
محمد ناجي سعيد يخضع لجلسة استجواب منذ 21 عاماً!

الاسم: محمد ناجي سعيد.
الحالة الاجتماعية: متزوج وله ابنة.
الميلاد: 12/ 12/ 1952 م. مدينة دار سعد محافظة عدن.
العمل: رئيساً للمجلس المركزي لطلاب اليمن.
أخذوه عصريوم الخميس بتاريخ 23 يناير 1986م (بعد أحداث 13 يناير الدامية بعشر أيام) وبشكل قسري من منزل ابنة خاله في مدينة المنصورة بعدن، من قبل جيش جرار من "الطيبين" من ضمنهم أحد رفاقه (إسمه معروف) والذي تعهد بتسليمه ومن معه إلى جهة ستحرص عليه وسيتم إعادته بعد استجوابه عن موقفه من تلك الأحداث. ودار هذا الحديث أمامي وأمام بعض أفراد أسرته. ولكن منذ ذلك اليوم لم يعد زوجي ولم نسمع عنه.. كانت ابنته آزال آنذاك في الخامسة من عمرها.
 لم نستلم أية إعانات بعد اختفائه كغيره من المفقودين في ذات الفترة، رغم أن لديه أماً عجوزاً كان يرعاها ويعولها إلى جانب زوجته وابنته.
 ما زلت أتذكر ما كان يرتدي في ذلك اليوم وتلك الليلة المشؤومة، فقد كان أنيقاً يهتم بهندامه، وكان مهذباً في تعامله مع الآخرين يشهد على ذلك كل من يعرفه، ويتميز بدماثة الأخلاق وبثقافته العالية وبقراءاته الواسعة.
 تخرجت ابنته من جامعة عدن عام 2002م بشهادة بكالوريوس، تخصص انجليزي – فرنسي من كلية التربية. وحتى اللحظة لم تحظ بأية وظيفة حكومية.. ولا زلنا ننتظر. علماً بأننا لم نستلم أية إعانات أو مستحقات منذ غيابه القسري. رغم أن هناك أسر شهداء عاشوا نفس المعاناة إلا أنهم يستلمون رواتب شهرية بانتظام وإعانات مختلفة كالعلاج والسفر وغيرها، وكأننا خارقون لا نمرض ولا نحتاج ولا.... هل لأن زوجي ليست له قبيلة ولا ينتمي لعشيرة؟؟؟
 
أطالب:
- بمعرفة مصير زوجي من خلال تشكيل لجنة دولية للتحقيق والتحري ومن ثم إصدار الحكم على من أجرم في حقه باعتباره كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في جنوب الوطن آنذاك.
- بإعادة الاعتبار لنا من خلال محاكمة الجناة.
- بإعادة كل مستحقاتنا المادية ومن ضمنها رواتبه منذ العام 1986 م.
وأخيراً بالتعويض المستحق عن عذاباتنا المستمرة منذ أكثر من عقدين.
 
- ألطاف محمد عبدالله